"التهدئة" بين أميركا وحماس وسورية
"التهدئة" بين أميركا وحماس وسورية
(لا يكفي الاستشهاد ب"صلح الحديبية" مع قريش أو بغيره من الأمثلة في التاريخ العربي الإسلامي للاقتناع ب"التهدئة" طويلة المدى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تقترحها حركة "حماس")
بقلم نقولا ناصر*
منذ انطلقت من مدريد ما تسمى "عملية السلام" العربية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كثمن أميركي لجبهة عربية تغض الطرف أو تتواطأ أو تتحالف مع الولايات المتحدة في حربها الأولى على العراق عام 1990 – 1991 تحت شعار "تحرير الكويت"، تحولت "التهدئة" العربية مع الاحتلال ودولته إلى سياسة رسمية أجمعت دول الجامعة العربية عليها فتوجتها ب"مبادرة السلام العربية" عام 2002، لصالح تسخين كل ما يمكن تسخينه من المواجهات العربية البينية ومع دول الجوار الإقليمي ليتوج هذا التسخين عربيا بتسعير الاقتتال الطائفي والمذهبي وإقليميا باستبدال دولة الاحتلال بإيران كعدو للعرب,
وفي هذا الإطار يوضع شعار "التهدئة" الذي ترفعه حركة حماس الفلسطينية بديلا ل"عملية السلام" في سياقه التاريخي والاستراتيجي فيصبح بالتالي على محك التقييم السياسي.
وبغض النظر عن حسن النوايا والتفسيرات الذاتية، فإن شعار "التهدئة طويلة الأمد" الذي تكرره "حماس"، و"التهدئة" الأقصر مدى التي تمارسها عمليا في مواجهة عدوان دولة الاحتلال المتكرر والمتواصل على قطاع غزة المحاصر، هو شعار يندرج من الناحية الموضوعية في سياق "التهدئة" الأوسع مع دولة الاحتلال التي تحولت إلى عنوان أميركي رئيسي يحدد علاقات الولايات المتحدة مع الدول العربية والإقليمية فيحكم حركتها السياسية والدبلوماسية، حيث تستخدم واشنطن علاقات حلفاء لها مثل تركيا وقطر مع حماس لتحقيقها فلسطينيا.
وفي ضوء "التسخين" الأميركي والعربي المتصاعد الذي يحبط كل إمكانيات "التهدئة" على الجبهة السورية، تتسلط الأضواء أكثر على موقع "تهدئة" حماس من الاستراتيجية الأميركية والعربية الساعية بكل الوسائل إلى تهدئة الصراع العربي مع دولة الاحتلال، حد أن يخلص كثير من المحللين إلى الاستنتاج بأن الهدف الرئيسي للحركة الدبلوماسية الأميركية الناشطة في المنطقة منذ فاز الرئيس باراك أوباما بولاية ثانية هو الحيلولة دون اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة تخلط الأوراق الإقليمية خلطا يشتت الجهود بعيدا عن "الأولوية" الأميركية والعربية في "تغيير النظام" السوري، برشوة فرجت الأزمة المالية لسلطة الحكم الذاتي في رام الله بالافراج عن الأموال الفلسطينية التي تجمعها دولة الاحتلال وعن المساعدات الأميركية التي جمدت بعد اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو فيها وبفتح بعض حنفيات تمويل المانحين الأوروبيين والعرب لها، وبمحاولة رشوة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال بوعود أميركية معسولة جديدة عن "دفع التنمية الاقتصادية" الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة لنهر الأردن.
وبغض النظر عن حسن نوايا حماس والثقة في صدق التزامها بمشروع المقاومة، فإنه في هذا السياق يصعب جدا عدم الاستنتاج بأن مشروع المقاومة الذي تكرر الحركة التزامها به أصبح مشروعا يحيط الشك في أنه تحول إلى مشروع مؤجل في ضوء التهدئة "المؤقتة" في قطاع غزة وشعار التهدئة طويلة المدى، لكن الأهم في ضوء الإطار السياسي الذي تتحرك الحركة فيه الآن وهو إطار يحكمه عنوان "التهدئة" الأميركي الذي يعد المقاومة شكلا من أشكال "الإرهاب" ويسعى إلى تصفية المقاومة الفلسطينية واحتواء عمودها الفقري المتمثل في "حماس"، مراهنا على أن الاصطفاف السياسي للحركة في هذا الإطار سوف يتحول بمرور الوقت إن طال الزمن عليه من اصطفاف يصفه البعض من المراقبين ب"التكتيكي" انطلاقا من ثقتهم في الحركة إلى موقف استراتيجي يكرر النجاح الأميركي في نقل حركة فتح المنافسة ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها من "الكفاح المسلح" إلى "التفاوض السلمي" ومن شعار "التحرير والعودة" إلى شعار الدولة، خصوصا في ظل الوضع الراهن الذي تجد حركة حماس نفسها فيه محاصرة بين مشروع محاصر للمقاومة وبين دولة تتكون محاصرة بدورها في القطاع.
فمنطق المقاومة المفترض يفترض التسخين الفلسطيني لا التهدئة لتخفيف الضغط عن حاضنة تاريخية للمقاومة الفلسطينية في سورية لو لم تنسحب حماس من هذه الحاضنة لأسباب تعلنها، ملخصها النأي بنفسها عن التورط في صراع داخلي سوري، وهي أسباب يتزايد الشك في موضوعيتها بدورها في ضوء الأدلة المتزايدة على أن الصراع في سورية لم يعد داخليا، حتى بافتراض أنه قد بدأ كذلك، بل تحول إلى صراع دولي وإقليمي يهدد الدولة السورية ودورها التاريخي في دعم المقاومة في فلسطين المحتلة أكثر مما يستهدف "تغيير النظام" فيها، وبالتالي يستهدف المقاومة الفلسطينية أيا كانت الحركة التي تتصدرها.
لكن شعار الحركة في "التهدئة"، في معزل عن سياقه الإقليمي الراهن، هو "في حد ذاته" شعار لا يزال غامضا وبحاجة ماسة إلى مزيد من جهود حركة حماس لتوضيح مرجعياته ومضمونه وواقعيته وإمكانية ترجمته عمليا كهدف "مرحلي" قابل للتحقيق، تتكرر معه الخشية من تكرار تجربة منظمة التحرير لتحويل دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 من هدف مرحلي إلى هدف نهائي في حد ذاته حوّل الصراع على الوجود العربي الإسلامي في فلسطين إلى نزاع على الحدود إن نجحت الجهود في تسويته بالتفاوض فإنه سوف ينهي الصراع ذاته، ولا يكفي الاستشهاد ب"صلح الحديبية" مع قريش أو بتنازل صلاح الدين الأيوبي عن عكا للفرنجة الصليبيين من أجل إنقاذ القدس وغيرها من الأمثلة في التاريخ العربي الإسلامي لاقناع المؤمنين بالدين الحنيف ب"التهدئة" طويلة أم قصيرة الأمد.
وعلى سبيل المثال، فإن أي تهدئة "طويلة المدى" قد تتحقق مع دولة الاحتلال من دون أن تكون مشروطة بسحب المستعمرات اليهودية ومستوطنيها غير الشرعيين من الأراضي المحتلة عام 1967 سوف تتحول عمليا إلى مهلة زمنية "طويلة الأمد" أيضا يسعى إليها الاحتلال ودولته حثيثا لمنح مشروع استعماره الاستيطاني للضفة الغربية، وبخاصة في القدس، فسحة أطول من الوقت تمكنه من استكمال تهويدها وخلق المزيد من الحقائق على الأرض المحتلة التي تجهض من ناحية أي حل مأمول على أساس "دولتين لشعبين" وتجعل أي مقاومة تستأنف لاحقا للاحتلال أكثر صعوبة من ناحية أخرى.
* كاتب عربي من فلسطين