حتى لا ننتقل من«تصريف الأعمـال» إلى «تسيـيـرها»

استقال د. سلام فيّاض، بعد أن بلغ سيل الفلسطينيين الزبى من التدخلات الدولية الوقحة والسافرة في شؤونهم الداخلية، وبعد أن بلغت محاولات فرض “مندوب سام” عليهم، أوجها في التصريحات والمواقف التي أدلى بها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري..لكن الرجل الذي بات “رقماً صعباً” في المعادلة الفلسطينية الداخلية، انتقل بحكومته من “تصريف الأعمال” إلى “تسييرها”.
واحدٌ من سيناريوهات المرحلة المقبلة، يؤسس على تجربة أطول حكومة “تصريف أعمال” يمكن أن يكون التاريخ قد عرفها، إلى مرحلة “تسيير الأعمال”..التي قد تمتد بدورها أياماً وأسابيع، وقد تستمر لأشهرٍ وسنوات..المسألة برمتها لم ترس على شاطئ بعد.
سيناريو آخر ينتظرنا، ينطوي على فيض من التفاؤل، وهو أن ينتقل الفلسطينيون إلى حكومة وحدة وطنية، عملاً باتفاق الدوحة وما سبقه من اتفاقات وتفاهمات في القاهرة..بيد أن الأفق الفلسطيني ما زال مُحمّلاً بكثيرٍ من الأعصاير والأنواء، التي تدفع للخلف بخيار المصالحة، أقله في الأشهر القليلة القادمة التي تلوح فيها بوادر حركة سياسية نشطة على مسار المفاوضات وجهود إحياء عملية السلام (وهي رميم)، ما يعني أن فيّاض قد يستمر في تسيير الأعمال، لأشهر عديدة قادمة.
وثمة سيناريو ثالث، كأن يؤتى برئيس وزراء وحكومة “انتقاليين”، شريطة أن يكونوا خريجين وتلاميذ نجباء لمدرسة “الفيّاضية”، مُتممين للشروط التي وضعها “المانحون” لمشروع “السلام الاقتصادي” الذي خرج به جون كيري، بعد أن فشل في مقاربة أكثر الملفات السياسية سخونة في مفاوضات الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
نحن إذن، إزاء وضع مفتوح على شتى الاحتمالات، من بقاء فيّاض، إلى عودة “الفيّاضية” من دون فيّاض، مروراً بالخيار الأقل ترجيحاً: استئناف المصالحة والشروع في إعادة بناء الحركة والوحدة الوطنيتين..وربما نمر بمرحلة انتقالية تمتد لعدة أشهر، بانتظار صعود “الدخان الأبيض” من مدخنة المقاطعة في رام الله.
استقالة فيّاض، والأهم قبولها، ترك أثراً إيجابياً على الساحة السياسية والشعبية الفلسطينية..حتى في أوساط فيّاض و”نادي محبيه”، ما كان بمقدور أحد الدفاع عن بقاء الرجل في موقعه، بعد كل هذا الدعم السافر، البالغ حد الإملاءات من قبل واشنطن..لكن أثر الاستقالة سيتبدد قريباً إن سارت التطورات باتجاه عودة فيّاض أو “الفيّاضية”..ووحدها خطوة باتجاه استرداد المصالحة واستعادة الوحدة، يمكن أن تعطي زخماً إضافياً، وتفتح أفقاً من التفاؤل والأمل بمستقبل أفضل.
لكن “أطرف” ردات الفعل التي أعقبت الاستقالة، تلك التي صدرت عن بعض أوساط حماس في غزة، إذ جاء على لسان سامي أبو زهري، أن استقالة فيّاض شأن داخلي لفتح والسلطة..لكأن الناطق يتحدث يتحدث عن حكومة في “واق الواق”..أو لكأنه ينطبق باسم حكومة دولة شقيقة للشعب الفلسطيني، لا تتدخل في شؤونه الداخلية..تصريح سقيم، حتى وإن كان القصد من ورائه القول، بأن هذه الاستقالة لا تندرج في سياق المصالحة وإنفاذ الاتفاقات الخاصة بشأنها.
أفضل ما ورد من مواقف في أعقاب الاستقالة هي تلك التي وردت على لسان الأخ بسام الصالحي، الذي دعا إسماعيل هنية وحكومته للاستقالة (أو تقديم عرض بالاستقالة)، تمهيداً لإتمام المشاورات بشأن تشكيل حكومة الوطنية، وطالب بدعوة الإطار القيادي المؤقت للمنظمة للاجتماع فوراً، للاتفاق على شكل الحكومة الجديدة وتحديد موعد للانتخابات المقبلة خلال فترة من 3 – 6 أشهر، ودعوة المجلس التشريعي لعقد دورة استثنائية، تسبق الانتخابات المقررة، بهدف تفعيل المؤسسات الفلسطينية المنتخبة، حتى وأن انتهت ولاياتها الدستورية، وبهدف تدعيم مسار المصالحة واستعادة الثقة وإعادة الاعتبار للمؤسسات.
نأمل أن تحل حكومة الوحدة والمصالحة محل حكومة فيّاض المستقيلة..نأمل أن تصدر مبادرة عن حماس تتخطى “حكاية عدم التدخل في الشؤون الداخلية” إلى طرح مبادرة وطنية تبني على ما حصل، لتفعيل الاتفاقات المبرمة..نأمل أن تتخطى حركة فتح، انقساماتها الداخلية، التي ستزداد تفاقماً على وقع الاستقالة ومشاورات التكليف والتأليف في المرحلة المقبلة...نأمل أن تثبت الفصائل الأخرى ولو لمرة واحدة، بأنها ما زالت لاعباً حاضراً وبقوة على المسرح الفلسطيني...نأمل أن تتمكن الحركات الشبابية والشعبية ولجان المقاطعة ومحاربة التطبيع والمجتمع المدني الفلسطيني، من فرض نفسها كلاعب، وعدم التصرف بعقلية “عدم التدخل” أيضاً..فاللحظة الفلسطينية مصيرية بامتياز، وحالة المهانة والاستهانة التي تعرض لها الفلسطينيون خلال الساعات الثماني والأربعين الفائتة، تكفي لقرع ألف ناقوس إنذار وخطر. ( الدستور )