اعتذار لا بد منه!!
لا انطق باسم احد، ولكني كمثقف يتعامل بشكل جدي وعضوي وتراجيدي مع هذه الصفة التي تحولت من مهنة الى قدر.
اعترف بانني كلما شرعت في الكتابة هذه الايام يملأني شعور بالخجل، وهو يأتي مصحوبا بالعرق واحيانا بالدمع الصامت، وذلك بسبب المسافة او الهوة الهائلة بين ما نمارسه من خلال حياتنا اليومية وتفاصيلها قليلة الشأن وبين ما نفكر به فعليا، ويتصور القارئ العزيز ان كاتبا يثق به ولو الى حد ما يضطر قبل الكتابة بساعة او ساعتين الى الدفاع عن ثقافته، بل الاعتذار عنها، فاكثر الناس منشغلون في صغائر لا ترقى الى حجر واحد مما يهدم الان سواء كان لاثر تاريخي او لبيت يستهدفه المستوطنون او لشاهدة قبر مسح المطر والغبار معا اسم الشهيد المنقوش عليها.
كم هو مخجل ما نشتبك حوله في جلسات عقيمة تسودها الثرثرة، وتبدو اشبه بمسرح اللامعقول، او بمسرحية سارتر الشهيرة بعنوان الحلقة المفرغة، بينما يعج الفضاء حولنا بانباء عن قتل الالاف منا يوميا، فمن قتلناهم من ابناء جلدتنا ومن قضوا في حوادث السير وحدها كان عددهم يكفي لجيش عرمرم يزيح الجبال من مواقعها.
لهذا اصبح الفرد منا مهددا بالشينروفرنيا التي تشطره الى واحد يثرثر ويضحك بلا معنى واخر يبكي ويكتب بشريانه وليس بالقلم، وما اصبحت متأكدا منه عبر كل الحوارات والثرثرات هو ان الصبي المتنازع عليه لا ام له بين كل هذه النساء، لانهن جميعا وافقن على تقسيم جسده الصغير بالسكين كي تظفر كل واحدة منهن باصبع او سرة او عين!
لكأن ما يجري تحت اقدامنا وفوق رؤوسنا وحولنا من الجهات الست لا الاربع فقط لا يعنينا، فمن أين يأتي البعض بهذه القدرة الخارقة على اللامبالاة بحيث يتحول الى عجل في طابور امام المسلخ لكنه يبرطع ويشتبك مع سواه ويخور وينزو غير مدرك بان السكين المشحوذة على عظم امه باتت قاب كيسي شعير او ادنى من الذبح والسلخ!
قبل نصف قرن كان العربي ينفعل لا بما يحدث في قرية السموع او طولكرم فقط، بل بما يحدث في القرن الافريقي وخليج الخنازير والكونغو، لكنه الان وبعد متوالية التدجين والعلف الثقافي المنزوع الدسم اصبح شبيها بالضفدع الاسترالي الشهير الذي لا يشعر بالالم حتى لو قطعه السكين الا عندما يقترب من اذنيه، لهذا يطبخ حيا ولا يشعر من يطبخونه بالاثم لانه عديم الاحساس.
هكذا تحققت نبوءة جحا، الذي قرر ألا يحرك ساكنا اذا حدث زلزال بعيدا عن بيته، او اذا سقط بيته بعيدا عن الغرفة التي ينام فيها.
لكن جحا دفع الثمن مضاعفا وسخر منه حتى حماره لكن بعد فوات الاوان!
لتكن لحظة اعتذار للذات عما تتورط به من ثرثرة عمياء في وقت اصبح فيه الصمت من ماس وليس من ذهب فقط! ( الدستور )