تَمنع الأقلام عن تسطير فارغ الكلام !
رياح الخماسين وإن تعددت أسمائها هي التي تَهبُ في هذه الفترة على المنطقة العربية من بلاد الشام إلى مصر والجزيرة العربية وحتى نصل إلى بلاد المغرب العربي ، فالخماسين ، والسموم ، والطوز ، والهبوب ، هي رياح عنيفة حارة وجافة وسريعة ، وغالبا ما تتحرك في قالب من الدوائر الرملية الحاملة معها لحبات الرمل ، وعن هذه الرياح يروى أن المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام قال عنها : " اللهم إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به " .
لكن قوة الرياح السياسية العاتية التي تهب وتعصف بدول المنطقة وبشعوبها من الخليج إلى المحيط تكاد تفوق رياح الخماسين هذه في شدتها وحرارتها وسرعتها ، بل إن فيها من الخطورة ما قد يشيب منه شعر الرأس عند كل إنسان غيور على مصالح هذه الأمة وخيراتها وقضاياها المصيرية التي يصر المستعمر الأجنبي وكل الأعداء الذين يأتي الكيان الصهيوني في المقدمة منهم على التطاول عليها ، والتلاعب بها ، وسرقتها ، وعلى الرقص فوق جراحها وعذاباتها ومعاناتها المزمنة ، والتي تأتي القضية الفلسطينية في المكانة والدرجة الأولى من سلمها ، وبغض النظر عن محاولة بعض الأقزام المارقين من تجار السياسة على إعادتها من موقع الرأس إلى ذيل هذه الهموم وهذه العناوين العاصفة والساخنة .
ولكن ، ماذا عسانا نقول ونكتب عن خطورة هذه المرحلة وما قد ينتج عنها من أهوال ومصائب وشدائد ؟ أعطوني حقبة أو مرحلة واحدة فقط من تاريخ هذه الأمة لم تكن فيها هذه الخطورة تشكل عنوانا لها ! أعطوني فترة من التاريخ الحديث التي عاشها البعض منا قديما ولا يزال البعض الآخر يعيشها حتى اللحظة لم تكن فيها الكوارث والمجازر والحروب سمة طاغية على إمتداد مسارها الزمني الذي قد يشهد لوقائعه أطفالنا قبل شيوخنا من الذين اكتوت ظهورهم تحت وقع ضربات السياط التي نزلت عليها وهم ينتقلون صابرين بين المجزرة وبين ما كان يتلوها من مجازر أخرى أكثر ألماً ووجعاً .
أين الجديد الذي تغير بين قديم الأمس وحَديث اليوم يا ترى ؟ و ما هو الفارق على سبيل المثال بين محاولة حرق الأقصى الشريف عام 1968 وبين محاولات المستوطنين الصهاينة التي يقومون بها لإقتحامه اليوم بهدف تدنيسه ، وضرب طهارة ما يلفه من قداسة في نفوس كل العرب والمسلمين ، وإلى متى سنكتفي بالكتابة والعويل والصراخ عندما يقدم هؤلاء القردة والخنازير على إرتكاب هذه الجرائم الحمقاء ؟ متى سوف نشبع من بيانات التنديد و الشجب والإدانة والتهديد بالأمم المتحدة وتقديم الشكوى عند كاتب عدلها الذي ولد ميتا ؟!
عندما نشعر بأن على الأقلام أن تتمنع عن تسطير فارغ الكلام ، وأنا لا أستثني نفسي من خطورة الوقوع في هذا الداء الذي بات يشوب ويطغى على حيز كبير من منتوج الكتابة السياسية الذي نطالعه مع كل صباح في وسائل الإعلام المختلفة من الصحف الورقية ومواقع الصحافة الإلكترونية التي لا يمكن حصرها ، عندما نقول ذلك وفي عنوان هذه المقالة ، فإننا لا نقصد الإساءة أو التجني على أحد ، ولكن الغثُ غثٌ ،والسمينُ سمينٌ ، بعد أن أصبح الفارق بين الأسود والأبيض عند تناول أسباب أوجاع ومعاناة هذه الأمة وإنكسارها هو كما الفارق بين السماء والأرض ، لكن أن نقول كلمة الحق لتكون بديلا عن الترويج واللف والدوران حول الباطل ، هو الأمر الذي يجب أن يميز بين المارق والسارق والمرتشي ، وبين من يمسك بقلمه ليكون سيفا في قول الحقيقة والدفاع عنها .
كنا نظن بأن هذا الربيع العربي وما أحدثه من تغيير سوف يساعد في تنقية وغسيل أقلامنا وأحبارها وما قد يخرج عنها من أفكار ومواقف ، ولكن وللأسف وحتى اللحظة فقد ظل هذا الظن في موقع التمنيات التي يبدو أنها لا تزال بعيدة المنال ، فالمدافعين عن سياسات الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصهيونية وما يرتكبوه من جرائم في شتى أنحاء العالم يتقلص ويتراجع عددهم إلا عندنا في هذا الوطن العربي الذي أوغلت فيه كل هذه الأطراف نهباً وتنكيلاُ وتدميراً ، فهم وللأسف في إزدياد مستمر ، والكتابات الداعية إلى مواصلة التلطي والمراهنة على عتبات بيت واشنطن الأسود على سبيل المثال تكاد تشتم رائحتها من سطر كتابها الأول .
إنه الأمر الذي لا يبعث إلا على الأسى والحزن عندما تطالع بعض الأعمدة وكيف يدافع أصحابها من مرتزقة الكلام عن جرائم دول وممالك النفط والغاز وإعتبار ما يخرج عنها من مواقف وسياسات بمثابة القدوة التي يجب على بقية الأقطار العربية أن تحذو حذوها ، فهل هنالك سقوط وتردي بعد هذا ؟ ألا يجب أن تتكلل وتتوشح نفوس وأقلام هذه الفئة بالسواد والذل والعار ، ماذا قبضوا يا ترى مقابل ذلك ؟ وما هو هذا المستنقع الذي يريدون إغراق الأمة فيه ؟ ألا يستحون قليلا من الدماء العربية البريئة التي سالت جراء مؤامرات ودسائس هذا النفط والغاز .
أمام هذه الأمة طريقان لا ثالث لهما ، فإما أن تسير على درب المقاومة لكل أعدائها الذين يتربصون بها لتصل إلى عزتها وكرامتها وتنال حريتها وإستقلالها الفعلي ، وإما البقاء على درب الذل والهوان والركوع والإستجداء وإنتظار تلقي المزيد من الضربات والفتن والتشرذم وضياع وسرقة خيراتها وكل مقدراتها ، وعلى الشرفاء والأحرار من كُتابنا وأقلامهم أن يختاروا بين هذين الطريقين لتعرف شعوبنا أين يزرعون كلماتهم ، وأين يجب أن تكون بذورها ؟ فالفارغ من الكلام انتهى أجله ولا يمكن أن يصنع للأقلام شرفاً ولا لأصحابها تاريخاً ، والطريق لتحرير فلسطين وأقصاها وكل مقدساتها واضح ومعروف ، ولا يحتاج أبداً إلى الدوران حول الرجاء الصالح .