ما دام رب عمر يعرفهم ...!
هناك بين دول شرق آسيا، تقع مجاورة للصين من جهة الشمال الشرقي، والهند وبنغلاديش من الشمال الغربي، ويطل ساحلها من الجوانب على خليج البنغال والمحيط الهندي، تلك الدولة التي عانت كثيراً من الاستعمار البريطاني من نهاية القرن التاسع عشر، وحتى استقلالها عام 1948م.
في تلك البلاد البعيدة عن العالم العربي، وقنواته العربية والجزيرة، سعى الإستعمار لإدخال التفرقة بين الديانات المختلفة، وإيقاع العداوة بين المسلمين والبوذيين، وطرد المسلمين من وظائفهم، وإحلال البوذيين مكانهم، ومصادرة أملاكهم وتوزيعها على البوذيين، وتحريض البوذيين ضد المسلمين ومدهم بالسلاح، حتى أوقعوا بالمسلمين مذبحة عام 1942م، حيث قتلوا حوالي مائة ألف مسلم، إضافة لإغلاق المعاهد والمدارس والمحاكم الشرعية.
ومنذ أشهر طويلة وما تزال حرب الإبادة الجماعية البوذية ضد المسلمين في جمهورية بورما (ميانمار) مستمرة، حيث أمرت الحكومة البورمية بإغلاق جميع المساجد والمدارس الإسلامية، وجميع دور التعليم والكتاتيب في ولاية أراكان التي يشكل المسلمين 70% من سكانها الملايين الأربعة، كما منعت رفع الأذان، وإقامة صلاة الجمعة والجماعة فيها، ولو داخل المنازل أو المخيمات !!
ولو عدنا للتاريخ لوجدنا أن الإسلام قد دخل بورما عن طريق أراكان في القرن الأول الهجري، بواسطة التجار العرب، وعلى رأسهم الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ومجموعة من التابعين، حيث كان العرب يسافرون لأجل التجارة لأقاصي البلاد، وفي يوم من الأيام انكسرت سفينتهم أثناء سفرهم للتجارة في وسط خليج البنغال، على مقربة من ساحل أراكان، فاضطروا إلى اللجوء إلى جزيرة رحمبري بأراكان، ونظراً لأخلاقهم الرفيعة، زوجهم أهل المنطقة من بناتهم ليتوطنوا في أراكان بعد ذلك.
نتألم بشدة اليوم مما نسمع، أو حتى نشاهد في بورما، مما يشيب له شعر الرأس، حيث يتم ذبح المسلمين بالسكاكين في حفلات موت جماعية، وتحرق جثثهم في محارق أشبه بالمحرقة النازية التي مازال العالم يتحدث عنها، كما تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وتغتصب نساؤهم، ويقطع أطفالهم دون أن يحرك أحد ساكنا !!
كل هذا بسبب اتهام باطل للمسلمين بالوقوف وراء مقتل شابة بوذية، ويستمر القتل والذبح بصمت رغم وصف الأمم المتحدة لما يجري لأقلية "الروهينغا" المسلمة بعمليات الإبادة الجماعية، وأنها أقلية مضطهدة دينياً ولغوياً في البلاد، إضافة إلى وجود ما يقدر بنحو 800 ألف من "الروهينغا" المسلمين في بورما بلا جنسية، بسبب رفض السلطات منحهم إياها على اعتبار أنهم مهاجرون غير شرعيين، حيث أن الدستور البورمي لم يعترف بالمسلمين منذ حصول بورما على استقلالها عام 1948م، بحجة أن أجدادهم لم يكونوا من أبناء البلد الأصليين، وإنما من بنغلاديش التي لا تعترف بهم هي الأخرى أيضاً !!
قبل عدة أيام كنا نجلس مع العائلة نتحدث في ما يدور حولنا، وتذكرنا أحداث بورما الأليمة، ليباغتنا سؤال من بعض أفراد العائلة عن أين تقع بورما يا ترى !!
سؤال أدركنا معه كم نحن مقصرين بحق هؤلاء المضطهدين من أهلنا في بورما، وكم أن الإعلام المنشغل بأراب أيدل، وأراب جوت تالنت، منشغل عن تلك الدماء الزكية التي تراق بدون وجه حق، وبدون أن يعلم عنها أحد بالتفاهات !
وكم تؤلمنا خطابات التهديد والوعيد التي نسمعها اليوم بين زعماء طوائف المسلمين، مما يزيد في تفرق الأمة وتشرذمها، مستحضرين موقف قيصر الروم عندما أرسل لمعاوية رضي الله عنه يقول له:(علمنا بما وقع بينكم وبين علي بن أبي طالب، وإنا لنرى أنكم أحق بالخلافة منه، فلو أمرتني أرسلت لك جيشاً يأتونك برأس علي)، ليرد عليه معاوية: (أخان تشاجرا، فما بالك تدخل بينهما، إن لم تخرس أرسلت إليك بجيش أوله عندك، وآخره عندي يأتونني برأسك أقدمه إلى علي ...!!!).
ونتذكر الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، ذلك القائد الأموي الكبير في الأندلس رحمه الله، عندما نشاهد دماء المسلمين تراق ولا أحد يحرك لها ساكناً، والذي سير جيشاً بكامل عتاده لأنه علم بأسر ثلاث مسلمات في مملكة نافار، ولم يرجع إلا وهن محررات معه، ليس هذا فقط، بل وأرسل له ملك نافار يعتذر بشدة بأن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن، فقد أسرهن جندي من الجنود تم عقابه، وقد تم هدم الكنيسة.
ذلك القائد الذي فرحت بموته كل أوروبا، فقال ملكهم ألفونسو: أما ترونني اليوم قد ملكت بلاد المسلمين والعرب وجلست على قبر أكبر قادتهم، فرد عليه أحد الموجودين: والله لو تنفس صاحب هذا القبر لما ترك فينا واحداً على قيد الحياة، ولا استقر بنا قرار ..!!
هذه أمة الإسلام التي كانت تقف صفاً واحداً في وجه أعدائها، صفاً واحداً يصدح بشهادة التوحيد، وتهتز له قلوب الأعداء والمتربصين، أمة موحدة على الكتاب والسنة، بكل مذاهبها وطوائفها.
لكل من تتفطر قلوبنا عليهم، وتلهج ألسنتنا بالدعاء لهم بالرحمة، ممن يقتلون ويذبحون لا لشئ إلا لانتمائهم لدين الإسلام، في بورما وغير بورما، ممن علمنا أو لم نعلم، نقول عنهم ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجند المسلمين، عندما عادوا منتصرين من إحدى المعارك، فأخبروه بأن هناك عدد كبير من الجند إستشهدوا في المعركة لم يعرفوا وجوههم، ليبكي عمر رضي الله عنه عندها، ويقول: وما ضر هؤلاء أن يعرفهم عمر، إبن أم عمر، مادام رب عمر يعرفهم !!