أنا مريض
تعّود من طفله الصغير الذي لم يصل الى عمر يؤهله لدخول المدرسة إدعاءه المرض كلما هم بضربه، أو توبيخه لكثرة مشاكساته ،وحركته الدائبة في المنزل ،ويبدو إن الطفل الصغير تعّود الكلمة هو الآخر لأنه سمع أهله لأكثر من مرة يطلبون إليه تناول الدواء ،ويحذرونه من المرض، ويقولون له في العادة ،أنت مريض ،ولن تشفى مالم تتناول الدواء ،وصار الطفل يعاتب والده قبل وبعد الضرب ،أو التوبيخ ،كأن يقول له ،وهو يبكي بحرقة ،لماذا تضربني وأنا مريض؟فيرد ،لكنك لست مريضا..! لا أنا مريض. وينطقها بالدال بدل الضاد، فيقول ،مريد..ويأسف الأب لأنه ضربه ،فيحتضنه، ويخفف عنه، ويغريه ببعض النقود ليشتري الحلوى، أو مايرغب من الدكان القريب.
حين يذهب الى المستشفى ،أو ينظر في وجوه الناس المرهقين يتذكر كم إنه قاس بحق نفسه، ومخالف لحقيقة وضعه ،حيث هو معافى من المرض والأدواء، ويسير في الطريق، ويذهب الى العمل دون معاناة كالتي يراها في وجوه المرضى من الناس، أو الذين يدخلون المشفى ،ومنهم من يحمل في نقالة، أو ينقل بسيارة إسعاف الى مستشفى لعله يتلقى علاجا سريعا، وينجو من الموت ،وكلما نظر الى مريض خيل له إنه مكانه ،فإذا رأى أحدهم ملقى على سرير الألم مصابا في ظهره، رأى نفسه مكانه، وبدأ يتألم ويخاف ،وإذا نظر الى مريض يحيط به أهله شعر إنه مكانه، لكن الفرق أن لاأحد يقترب منه، ويخشاه ويهرب الى مكان حيث لايراه ولايتحسس عذاباته.
قيل ،إن نعمة الصحة لايعرف حقيقتها سوى من فقدها وحينها يدرك كم هي مهمة ،فلاشئ يعوض عنها ،وكم من أموال وضيع ومبان وعيال ونساء وأصحاب يملك المرء لكنهم جميعا لن يعوضوه الصحة لو فقدها يوما، وكل هذه العناوين تأتي بالصحة ،بينما لاتأتي الصحة إلا بالصحة فهي الضمان لوصول الإنسان الى مبتغاه ،وقد جعل الله لعباده أسباب لنيلها، وربما كان دعاء موسى النبي لربه بالشفاء حين أصابه سقم ما دالا على أهمية البحث في الأسباب لتوخي العلاج من الأدواء ،فحين قال موسى ،ربي إني مريض فشافني، قال له ربه ، ياموسى إذهب الى الطبيب .
ولعل الدخول الى مستشفى في بلد مثل العراق يعد مصابا أكبر من المرض بذاته،والمرض شئ ،ودخول المستشفى شئ آخر، ولاأحد يتمناه ،ولالعدوه حتى ،فكيف لك أن تتحمل الوجود في مستشفيات عراقية لاتخضع لأبسط معايير الإهتمام، أو النظافة، وكأنك في معتقل يرزح فيه المحتجزون تحت طائلة التعذيب ويخضعون للتحقيق المستمر حتى ساعة المغادرة الى القبر، أو الى البيت وفي العداء لمن تحب أن تدعو له بالقول ،جنبك الله الحاكم والحكيم ،والحاكم هو الظالم ،أو رجل الأمن ،أو القاضي الذي قد يصدر حكما بالسجن، أو الإعدام ،وربما كان حكمه ظالما ،ولعل المعنى الدقيق لكلمة حاكم هو من تولى السلطان عليك فلاتعود تأمن على حياتك ،ولامالك، ولاعيالك معه، وهو الحاصل في بلاد العرب والمسلمين أكثر من حصوله في بلاد الكفر والفسوق كما يريد خداعنا بذلك بعض الغلاة من المتدينين الموهومين.
والحكيم هو الطبيب، والدعاء لايعني ،إن الطبيب سئ ،بل أن تتجنب المرض الذي يضطرك للذهاب الى الطبيب، مع إن معظم الأطباء عندنا صاروا قصابين ماهرين يبحثون عن المال، وربما راجعت طبيبا وشخّص لك حالك، ثم قال ،أنك بحاجة الى عملية جراحية ،والحقيقة إنك لست بحاجة لها ،وهمه الربح فيتعاقد مع مختبر، ومع صيدلية ،وكأن الموضوع أصبح مساهمة في شركة ،عدا عن سعر الدواء، وتكاليف الفحوص والمختبرات ووو..