زمان .. يا مصر!

هذه ليست صرخة ذاتية أو تعبيراً عن نوستالجيا، فالمسافة الجوية بين القاهرة وعمان أقل من ساعة، لكنها صرخة قومية وانسانية، فمصر التي طالما كانت الرافعة حتى بالنسبة لرواد النهضة من الشوام الذين لاذوا بها لم تغب عنها ادق تفاصيل ما يجري في العالم العربي، لأن نيلها يجري شرقاً كما قال الراحل د. جمال حمدان ولأن العروبة قدرها التاريخي والجغرافي معاً.. لكن مصر الآن ربما منذ زمن استغرقت في شجونها، ولم يعد ما يحدث حولها رغم انه يخصها في الصميم يحظى باهتمام اعلامي، ربما لأنه ليس هناك فائض من الوقت والعاطفة، فالازمات في مصر مزمنة، وآخذة في التفاقم، والاشتباك الآن بين اطراف سياسية وايديولوجية وليس بين الثورة وثالوث الاعداء من فقر وجهل ومرض، ومصر التي بادرت منذ مطلع القرن الماضي من خلال تأسيس جامعة فؤاد الأول الى تعليم العرب ثم اكملت المشوار من خلال تأميم التعليم في الرحلة الناصرية تشكو الآن من الأميّة وبنسبة كارثية اذا اقترنت هذه النسبة ببلد لعب دوراً تنويرياً في المنطقة منذ القرن التاسع عشر.
كنا نقول فيما مضى والله زمان يا سلاحي، لكن الاحلام صغرت وتراجعت لصالح واقعية سياسية كلبية، تجاوزت الميكافيلية والذرائعية بمراحل، لهذا نكتفي الآن بالقول والله زمان يا مصر زمان عن افريقيا التي تهدد هبة النيل بما يبنى من سدود وزمان عن الاشواق القومية والقضايا التي تتجاوز الرغيف الى وردة الحرية، وزمان على اناشيد وأغنيات كانت اجيال تضبط خطواتها على ايقاعاتها، وزمان على مصر..
زمان على تلك العبارة المفعمة بالكبرياء الوطني عندما قال جمال عبدالناصر في ميدان التحرير.. الخمسون مليون جنيه التي تدفعها أمريكا على الجزمة!
وزمان على تلك الدموع النبيلة في الجامع الأزهر عندما هبّ حتى الجميز والنخيل لصد العدوان الثلاثي بعد تأميم قناة السويس لكن الزمن تبدل ومشى الناس على رؤوسهم فما يؤمم الآن هو قنوات الدمع والفضائيات الداجنة.
تغير الزمن الى الحد الذي اصبح فيه القاهر مقهوراً والناصر مخذولاً، ولأن الشجى يبعث الشجى فان الآه التي نزفرها ونحن نقول زمان يا مصر تشمل ايضا ما ادخل الى المتاحف من عواطفنا القومية وما اصبح مثيراً لسخرية السماسرة من اوجاعنا وما نزف من كبريائنا القومي.
زمان على كل شيء، على آباء وهبوا حياتهم لابناء لم يكن العقوق من ثقافتهم وزمان على حبّ نظيف لا يرتفع منسوب حرارته أو ينخفض تبعاً لرصيد في بنك أو منصب أو جاه.
زمان على حدائق تحولت الى قبور جماعية للأحياء الموتى، فما ودعناه ليس السلاح أو الوفاء فقط.. ما ودعناه هو أنفسنا التي نسعى في الأرض بدونها، فنحن أصبحنا سوانا، وكأننا نعيش في أوطان مستأجرة بعقود من الباطن!! ( الدستور )