عقلية الوصاية والأوصياء

ظاهرة غريبة تنتشر في مجتمعاتنا، تحتاج إلى توقف ودراسة معمقة ومعالجة، تتمثل في تقمص عقلية الوصاية على الدين، أو احتكار الديمقراطية، أو الاستفراد بمعاني الولاء والانتماء، أو الوكالة الحصرية للقضية الفلسطينية والقدس، أو احتكار التنظير المستعلي للمقاومة، والعزف المنفرد على لحن الممانعة، أو الإشراف على ينبوع الحقيقة، وفي هذه الأيام خرج علينا وكلاء وموزعون حصريون جدد للقضية السورية وما يتصل بها وما يتفرع عنها..!!
بالأمس بعث لي أحدهم يحمل لقب دكتور برسالة، يخاطبني قائلاً: عليك أن تحدد موقفك من القضية السورية من خلال ثلاث قضايا: 1- النظام السوري المجرم 2- عصابات حزب اللات اللبناني 3- النظام الإيراني .. وهو بانتظار الجواب،لأنه يترتب عليه ما بعده ..!!
لا أعرف هذا الشخص ولم أسمع باسمه من قبل،ولا أدري ما الذي يترتب على ذلك! ولكن لا أدري كيف أعطى لنفسه حق الوصاية على القضية السورية، وحق تقبل أوراق الاعتماد، وإصدار شهادات حسن السلوك ؟! وهل عليّ فعلاً إقناع هذا الشخص وآخرين بصوابية موقفي؟ وصحة ما أكتب، حتى يعطوني الأوسمة..!!
هذا تماماً ما يحدث مع آخرين أعطوا لأنفسهم الوكالة الحصرية للقضية الفلسطينية، ويجب علينا أن نقدم لهم مراسيم التقرب والقبول، وأن نثبت لهم أننا نحب فلسطين، وأن نعبرّ عن أشواقنا إلى القدس في كل ما نقول ونكتب، لأنهم يملكون إصدار مراسيم الحرمان والطرد من الانتساب إلى القضية المقدسة!! والمطلوب أن يتم التكرار المستمر لهذا التعبير من دون توقف أو ملل وإلاّ سوف ترى نفسك هدفاً للرماية..!!
وقد حضرت عدة مؤتمرات في الأردن والبلدان العربية حول تطورات الربيع العربي، ودائماً هناك من ينصب نفسه محل القيّم الأكبر والأوحد على الديمقراطية، ويبدأ بتوزيع الأسئلة والأوامر الصارمة من خلال تكرار القول: على الإسلاميين أن يبينوا موقفهم بوضوح من التعددية الفكرية والسياسية، وأن يبينوا موقفهم من غير المسلمين ومن الأقليات، وأن يوضحوا موقفهم من المرأة، والالتزام بنتائج صناديق الاقتراع، ويجب تجلية المواقف الرمادية من الحريات والحقوق وحقوق الإنسان، ويتكرر ذلك في كل ندوة وفي كل ورشة عمل، وفي كل لقاء إعلامي وصحافي. منذ ما يزيد على عشر سنوات.. وما زال الاستجواب مستمرا، ودائماً هناك من يتوارث هذه التساؤلات المتكررة عبر الأجيال، وهناك من ينصب نفسه قيّماً على الديمقراطية ومعانيها، ودائماً علينا أن نقدم لهم أوراق الاعتماد، والأدلة الدامغة،من أجل التعطف بنيل الرضا والقبول ،والحصول على وثيقة حسن السلوك!!
دائماً هناك أناس ينصبون أنفسهم أوصياء على الحقيقة والقضايا الوطنية،ويجعلون أنفسهم في مرتبة فوق الشبهات وفوق النقد، وهم وحدهم الذين يملكون الحق في تصنيف الناس، وهم وحدهم الذين يملكون المساطر، والمقاييس الصحيحة والمعايير السليمة، والموازين الدقيقة، وعليك أن تنزل صاغراً على حكم موازينهم ومعاييرهم ومساطرهم، وعليك أن تنتظر الحكم بأدب!
هناك من سمّى نفسه "البديل البنفسجي "يقول بلهجة آمرة وحاسمة: على الحركة الإسلامية أن تحدد موقفها من إسرائيل، وأمريكا، وحلف الناتو، والسعودية، وأمراء الخليج الذين يدعمون الإرهابيين والمتمردين! والموقف من المعاهدات مع الكيان الصهيوني!.
إلى أين تذهب الحركة الإسلامية لتقدم أوراق اعتمادها ؟ وكيف تأخذ شهادة حسن السلوك من مؤسسات "البديل البنفسجي" الذي يملك حق إصدار شهادة (الأيزو) في كل هذه المسائل والقضايا الكبرى؟!.
هناك أيضاً من ينصب نفسه وصياً على الدين والسنة، وهو وحده الذي يملك فهم الرعيل الأول من المسلمين من الصحابة والتابعين الذين يطلق عليهم وصف السلف الصالح، ومجرد حمل هذه الصفة أعطته حقاً بإصدار الفرمانات والمراسيم، وأعطى نفسه مكانة، تجعله لا يعترف بالشهادات، والدرجات العلميّة، والتخصصات الشرعية، وذلك لأن الصحابة والسلف لم يكونوا يحملون شهادات ولا درجات ولا تخصصات علميّة!!
مشكلة الوصاية على الدين تم حلها، من خلال الفهم المتواتر بأنه ليس في الإسلام رجال دين وحفظة أسرار وطلاسم، وليس هناك سدنة للحكمة، وأن الوصاية للأمة بمجموعها، والآمر إليها، كما أن هناك دراسات وتخصصات وشهادات، ولكن المشكلة المستعصية بمسألة الوصاية على القضية الفلسطينية، والوكالة الحصرية للقضية السورية، ومسألة احتكار الوطنية والقومية والانتماء العروبي؟ فهذه المعضلة ليس لها حل، وسوف تبقى المعاناة من محاولات التجريد ومراسيم الحرمان! عندما تخالف أهواء القائمين عليها ،أو تخالف اجتهادهم وفهمهم للمسألة وسوف يبقى إطلاق القب العمالة سهلا، وسوف يبقى سيف التصنيف مسلطا على رقاب البشر! ( العرب اليوم )