اسبوع تونس الحزين

في أقل من أسبوع واحد مرت على تونس والتونسيين سلسلة من النوائب والأحداث كدّرت عليهم جميعا شهر رمضان المبارك وألقت على البلاد كافة جوا ثقيلا من الحزن والحيرة: في البداية كان اغتيال النائب المعارض العروبي محمد البراهمي أمام بيته بأربع عشرة رصاصة خربت جسده، وفي نهايته قتل تسعة جنود في جبل الشعانبي القريب من الحدود الجزائرية في كمين إرهابي من بينهم إثنان قتلا ذبحا.
لم يصدق التونسيون أن عملية اغتيال سياسي ثانية يمكن أن تحدث في بلادهم بعد ستة أشهر على اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، ولا أن تصل الاعتداءات على جنودهم هذا الحد الوحشي . جسارة الاغتيال ودناءة الاعتداء على الجيش لم تتركا للمعارضين قدرة على ضبط النفس أو التماس الأعذار فبات المطلب الرئيسي إقالة الحكومة التي يرأسها علي العريض وحل المجلس التأسيسي المنتخب المنوط به خلال هذه المرحلة الانتقالية صياغة دستور جديد للبلاد وسن القوانين الأساسية المنظمة للحياة السياسية.
لم تعد المسألة مجرد مطالبة. انسحب زهاء السبعين من بين الــ 217 من عضوية هذا المجلس وانضموا إلى المعتصمين أمامه مطالبين بحله، وهو ما اختلفت عليه الآراء بين الأحزاب والشخصيات الوطنية بين مؤيد ومعارض، بين مطالب بإعادة صياغة كاملة للمرحاة الانتقالية بعد كل هذا الخيبات وآخر محذر من الفراغ .
أما مطلب تشكيل حكومة جديدة فقد حظي بدعم أكبر حتى من بين أحد أحزاب الثلاثي الحاكم (النهضة والمؤتمر والتكتل) متمثلا في هذا الأخير، رغم أن علي العريض رفض المطلبين معا مكتفيا بتحديد موعدي 23 تشرين الأول/ أكتوبر للانتهاء من الدستور و17 كانون الأول/ديسمبر لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وبين وجهتي النظر هاتين، برز طرح ثالث يدعمه إتحادا نقابات العمال وأرباب العمل ومنظمات أخرى يرى ضرورة رحيل هذه الحكومة وتشكيل أخرى من الكفاءات غير الحزبية (ها قد عدنا لما كانت رفضته ‘النهضة’ عندما اقترحه رئيس الوزراء السابق حمادي الجبالي بعد مقتل بلعيد في فبراير الماضي!!) مع بقاء المجلس التأسيسي وتحديد مواعيد واضحة وصارمة للاستحقاقات المقبلة.
ما وصلت إليه تونس هو نتيجة لما كان حذر من عواقبه كثيرون دون فائدة، فكان أن دخلت البلاد في سلسلة من الأخطاء جرّ بعضها بعضا فزادت أزمة المصداقية وانعدام الثقة بين حركة ‘النهضة’ الإسلامية وشركائها في الحكم و بقية الأحزاب وقطاع واسع من الرأي العام.
لقد كانت الخطيئة الكبرى هي عدم احترام أجل العام الواحد للمرحلة الانتقالية وصياغة الدستور الجديد للبلاد (كان يفترض أن تنتهي مع نهاية 2012 على أبعد تقدير) فبدا وكأن القوم استمرأوا السلطة فبدأوا في تمطيط ما لا يحتمل التمطيط. حدث ذلك بالتوازي مع اتهامات واسعة النطاق لحركة ‘النهضة’ بأنها تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة المختلفة (البعض يشير، دون ذكر مصدر واضح، إلى أنها تمكنت إلى حد الآن من تعيين 2000 من أنصارها بين 5900 هو العدد الإجمالي للكوادر العليا في الدولة).
كما أن حركة ‘النهضة’ وحلفاءها مسؤولون بدرجة كبرى على السماح بالتفشي التدريجي لمناخ التطرف الديني في تونس وبروز تيارات متشددة عنيفة استطاعت أن تفرض أحكامها على مساجد وأحياء فأشاعت لدى كثيرين مناخا من الرعب. وفوق ذلك كله لم تفلح حركة ‘النهضة’ في أن ترسي جوا من الثقة في نواياها حول مستقبل الدولة ونمط المجتمع الذي تريد إرساءه والذي يتخوف كثيرون من أن يكون كاتما للحريات ورافضا للإختلاف والتنوع باسم الدين والهوية.
وفي النهاية، فإن المقترح الذي يدعمه اتحاد الشغل يبدو الأرجح عمليا إلى حد الآن فهو من ناحية لا يفرّط في المجلس التأسيسي، رغم كل المآخذ، لكنه لا يساير الحكومة في الحرص على البقاء وكأن شيئا لم يكن.
الخوف الآن كل الخوف أن تسير الأمور لدى الطرفين الآخرين نحو رغبة جامحة في الحسم الكامل: ‘النهضة’ غير الراغبة في تغيير أشياء كثيرة باسم المحافظة على الشرعية، ومعارضوها الراغبون في تغيير كل شيء باسم فشل المرحلة السابقة. إذا اصطدم أنصار هذين الحسمين، لا سمح الله، ضاعت تونس.
( القدس العربي )