قتل المعتقلين جريمة مضاعفة

تشهد الأحداث الدائرة في مصر تطوراً مثيراً ومرعباً فقد تخطى حدود المعقول، ويبدو أن منحنى القتل يتصاعد بوتيرة عالية، يقتضي من العالم العربي والاسلامي الالتفات الى المشهد المصري بعناية، والتعامل مع ما يجري بطريقة أكثر عقلانية وأكثر مسؤولية، في ظل خبرين على قدر كبير من الخطورة؛احدهما يشير الى مقتل (38) من المعتقلين والاخر يشير الى مقتل (24) شرطيا في كمين تم نصبه من مجهولين على حدود سيناء !
تقول الرواية الصادرة عن المصادر الأمنية الرسمية في مصر: أنه اثناء نقل المعتقلين من المعارضين الى سجن أبوزعبل فقد قضى (32) معتقلاً نتيجة الاختناق بقنابل الغاز والمسيلة للدموع، وذلك في محاولة للسيطرة على الموقف عندما حاول المعتقلون الهروب، بينما تقول الرواية الأخرى: أنه جرى اطلاق الرصاص الحي على الحافلات التي كانت نقل المعتقلين الى السجن مما أدى الى مقتل (38) معتقلاً.
الرواية الأمنية تبدو ركيكة ومختلة ومتناقضة، بحيث لا تجعلها متماسكة، وغير قابلة للتصديق، إذ ليس من المعقول أن يتم رمي الهاربين أو الذين حاولوا الهروب بقنابل الغاز والقنابل المسيلة للدموع، لأن هذه القنابل تستعمل عادة لفض المحتشدين وتفريق المعتصمين! وتسهيل عملية الهروب والخروج من المكان وليس العكس!! والثغرة الأخرى في الرواية الأمنية تتمثل بعدد القتلى، فهل يعقل أن تؤدي قنابل الغاز الى مقتل هذا العدد الكبير، الاّ إذ كانت هذه القنابل معبأه بسلاح كيمياوي قاتل، فضلاً عن القول أن القنابل المسيلة للدموع تستطيع إماتة الهاربين في العراء و الخلاء، ولذلك نحن في الحقيقة أمام جريمة انسانية مروعة و بشعة بكل المقاييس، أقدم عليها من لا يتحمل مسؤولية السلطة، ومن لا يقدر عواقب هذه الفعلة الشنيعة، التي تعبر عن تدهور الموقف واشاعة الفوضى وسيادة منطق شريعة الغاب، ومنطق التصفية الممزوج بشعور عدم المراقبة وانعدام المتابعة !!
السلطة التي تتولى مسؤولية إدارة الدولة سواء كانت سلطة منتخبة أو غير منتخبة، وحتى لو كانت سلطة احتلال فهي تتحمل مسؤولية ضمان سلامة الشعب المحتل، وتتحمل مسؤولية ضمان سلامة السكان واستمرار حياتهم، وهي تتحمل مسؤولية كل قطرة دم تسيل، بعرف كل قوانين البشر، ومن المؤكد كذلك أن السلطة تتحمل مسؤولية ضمان سلامة المعتقلين باجماع كل القوانين الدولية، إذ أن مقتل معتقل واحد في سجون أي دولة يشكل حدثاُ مزلزلاً يقتضي تشكيل لجان تحقيق نزيهة وعادلة من أجل الوقوف على سبب الوفاة، فليس من المعقول أن يتم قتل(32) معتقلا أو (52) أو أكثر أو أقل بحسب الروايات المتناقضة، ويتم التعامل معها من قبل السلطات المصرية مثل خبر فقدان جواز سفر.
هذا العدد الكبير من الضحايا الذي يسقط في الساحات والشوارع والمساجد والمعتقلات، أمر يثير الرعب في نفوس كل الشعوب العربية على امتداد الأرض العربية، والشعوب الاسلامية كلها، وسوف يكون لهذا التطورات الخطيرة آثار مدمرة على مستقبل الأجيال، وسوف يؤدي الى انفلات الأمور من عقالها، وسوف يجعلها خارج حدود التوقعات، مما يحتم على العقلاء والحكماء العرب والمسلمين وعلى مستوى العالم كله، أن يسارعوا لبذل الجهود التي تضع حداً لهذه الفوضى المروّعة، فأين دور الجامعة العربية ولجانها، وأين دور منطمة المؤتمر الاسلامي، فليس من المعقول أن لا يتم تشكيل لجان ووفود تقابل الأطراف المختلفة، من أجل استجلاء الحقيقة والبدء بمحاولة القيام بمبادرات مسؤولة تحمل بعض جوانب العدالة والمنطق، لتجنيب الدولة والشعب الانزلاق الى دوامة العنف الدموي ومستنقع الهرج والمرج الذي تضيع فيه الحقائق وتصبح لغة القتل هي اللغة السائدة وصاحبة الكلمة العليا.
إن الاصطفاف المجرد الى فريق ضد فريق من الدول العربية والأطراف الخارجية، لا يشكل طريقا للحل، ولا يسهم في تخفيف حدة التوتر، وينفي امكانية البحث عن حلول عادلة، تمكن الأطراف المصرية من الحوار والتواصل، ومن ثم امكانية التوافق على خارطة طريق جديدة، تعيد المكونات السياسية والاجتماعية الى الخضوع الى مرجعية وطنية عليا موحدة، لا يختلف عليها العقلاء.
لا تتجلى الحكمة في إعلان الرأي وبيان الموقف المنحاز من الأطراف التي ترقب المشهد عن بعد، وانما تتجلى الحكمة بالقدرة على اجتراح الحلول والمبادرات التي تراعي منطق المصالحة وامكانية جمع الفرقاء، هذا ما أود قوله لوزراء الخارجية العرب وعلى رأسهم السعودية والأردن على وجه الخصوص، هذا ما يقتضيه منطق الحرص الأخوي على سلامة مصر وشعبها ومستقبل اجيالها.
( الدستور )