حمدة الأحمد

عندما تمت دعوتي لاكون احد المكرمين في حفل التكريم الذي تمت اقامته في جامعة عجلون الوطنية ، تحت رعاية وزيرة الثقافة ، بتقديم لطيف من الدكتور مهند محادين ، اجتاحتني مجموعة تيارات متدفقة من الذكريات التي اختصرت خمسة عقود من الزمن ، ايقنت ان هذا التكريم المشكور هو لي بالنيابة عن والدي -رحمه الله- وعن والدتي الحاجة حمدة الأحمد -احسن الله- خاتمتها.
حمدة الاحمد هي نموذج لجيل من الامهات الاردنيات، اللواتي كان لهن الفضل الاول في اخراج هذه الكوكبة من قيادات المجتمع، الذين تولوا ادارة مؤسسات الدولة وصياغة المرحلة الحديثة من تاريخ الاردن ، على شظف من العيش وقلة ذات اليد، وانعدام التعليم، وممارسة الاعمال الشاقة داخل البيت و خارجه ، من اجل توفير الفرصة المتاحة لابنائهن، نحو اشتقاق ظروف جديدة في الحياة يشرق فيها الامل، وتتبدد فيها غيوم البؤس ، وينقشع ضباب الحزن و الاسى ، الذي لف المنطقة بعد الحرب العالمية الاولى .
ولدت الطفلة حمدة في بيت زعيم القرية؛ الحاج احمد عبد القادر ابو صيني ، الذي كان اماما و مصلحا اجتماعيا، وطبيبا عربيا يداوي الجروح، ويصلح الاطراف المكسورة، و يعالج العيون الرمداء، و يمارس الطب الصيني لكل ابناء المنطقة ، بالاضافة الى اصلاح ذات البين و السعي في حوائج الناس، و ممارسة الارشاد و تعليم الجهلاء الصلاة و شعائر الصيام، و مسائل الحلال و الحرام ، فضلا عن مهمة استصلاح الاراضي وزراعة الاشجار، و السعي في طلب الرزق ، لان كل المهن السابقة كانت تتم بلا اجر، وبما تبقى لديه من وقت كان يحاول تعليم بناته القراءة و الكتابة ، وحفظ القرآن في بيته، لعدم وجود مدارس حكومية او خاصة تقوم بهذا الدور .
تزوجت الشابة حمدة ولم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها ، رجلا فقد زوجتيه ، واتت الى بيت جديد هو بيت زعيم اخر يمارس الادوار نفسها من حيث الامامة و الاصلاح الاجتماعي ، وحسن الرعاية لعشيرته و اقربائه ، في قرية صغيرة مجاورة اقيمت بيوتها الطينية على اكتاف الجبال المطلة على غور الاردن ، اذ كانت تعيش على الزراعة و الرعي مثل بقية القرى الاردنية .
كانت تصحو الزوجة الصغيرة قبل اذان الفجر، من اجل البدء في تنفيذ قائمة طويلة من الواجبات ، تبدأ بتجهيز «الطابون» ، ذلك الفرن الذي يعمل على زبل الحيوانات، من اجل اعداد ارغفة الخبز قبل ان يصحو القوم ، بالاضافة الى حلب الابقار و الاغنام ، وعلف الدجاجات و كنس الزرائب و تنظيفها، وبعد ذلك عمل وجبة الافطار و ترتيب امور الصغار ، الذين يستعدون للذهاب الى المدرسة ، وبعد ذلك ياتي دور الاتيان بالماء من العين القابعة في اسفل الوادي ، من خلال حمل القلال على الرأس ، لغايات الشرب و الغسيل و الاستعمالات الاخرى ، ثم بعد ذلك تاتي اعمال الغسيل و الجلي و ترتيب الفراش ، و رش الساحات الترابية التي تحيط بالبيت الطيني ، حيث ان الاسمنت لم يكن معروفا انذاك .
لم يقتصر عمل الزوجة حمدة الاحمد على هذه الاعمال البيتية ، بل كان يتوجب عليها بعد الانتهاء منها ان تبدأ بتجهيز العدة للحاق بزوجها المزارع الذي سبقها الى الحقل، مشيا على الاقدام ، وفي المزرعة اعمال حقلية كثيرة لا عد لها و لا حصر؛ تعاون بها الزوجة زوجها ، مثل التعشيب و زراعة اشتال البندورة ، وتلقيط الثمار ، و المشاركة في اعمال حصيد العدس و الكرسنة و الشعير و القمح ، وما يستتبع ذلك من اعمال و مهام .
قبل غروب الشمس تسابق الزمن للرجوع الى البيت من اجل استقبال الاغنام و الابقار القادمة من المراعي البعيدة، لتبدأ اعمال الحلب و الاطعام ، وترتيب امور المنزل و الاطفال و تجهيز العشاء ، و الاستعداد للسهر في ليل يخلو من الضوء .
هناك اشياء اخرى كثيرة غير منظورة لا يتسع الوقت لعدها و حصرها ، اهمها تربية الابناء و تعليمهم الاخلاق و القيم ، وملكات مواجهة الحياة القادمة ، الحاجة حمدة الاحمد يقترب عمرها من الثمانين ولم تعد الان قادرة على الوقوف ، بعد ان كانت امرأة قوية صلبة عنيدة ، استعصت على مشاكل الزمن بروح وثابة ، لا تعرف الكلل و لا الملل ، لم اسمع منها طوال حياتي كلمة نابية ، او لفظة فاحشة ، فما زلت اتعلم على يديها قيم الايمان و الصبر و الثبات و الطموح و حسن التعلق بالله ، وها هي اليوم تسألني عن الرئيس مرسي و عن مصيره كلما اتيت اليها ، وتسألني عن اخبار الثورة السورية و مستقبلها ، هذا جيل الاردنيات النشميات اللواتي كن جنودا مجهولين ، واستطعن ان يخرجن كتائب من الرجال الذين بنوا الاردن ، فهن اولى بالتكريم و احق بالتبجيل و التقدير ، حيث نعجز جميعا عن تقديم الاحترام والتقدير والبر المستحق .
( الدستور 13-10-2013 )