التطرف والإضرار بالأمة

التطرف ألحق ضرراً كبيراً بالدين والإسلام، كما ألحق ضرراً أشد فداحة بالأمة ومستقبلها، بل أصبح التطرف عائقاً أمام تقدم المشروع الحضاري الإسلامي في العصرالحديث، وتجلى ذلك بوضوح في إعاقة مسيرة الربيع العربي، وتحويله إلى هشيم تذروه الرياح، بعد أن أصبحت الشعوب العربية تقف على عتبة الحرية، وقريبة من محطة التخلص من حقبة الاستبداد والمستبدين، سواء اكان هذا التطرف دينيا او فكريا او سياسيا.
ليس هناك أشد ضرراً على الإسلام والمسلمين من أولئك الذين يعجزون عن فهم مقاصد الدين ومبادئه وأصوله وقواعده، ويتمسكون بظواهره وقشوره؛ لضحالة علمهم وضيق مداركهم وسوء إدارتهم، وعجزهم عن قراءة المشهد السياسي المحلي والإقليمي والعالمي، وقلة حيلتهم في اشتقاق البرامج القادرة على حل مشاكل امتهم وأقطارهم، حيث لا يمكن التوصل اليها الا بالعلم والاجتهاد والمثابرة، والبحث المصحوب بالفهم العميق، والقدرة على التقاط الحكمة، والتمكن من الاستفادة من تجارب البشرية، والأخذ بالأسباب، وامتلاك أوراق القوة، من اجل احداث التغيير والاصلاح الشامل المطلوب، اعتماداً على قوله تعالى: «إن الله لايغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، والتغيير الوارد في الآية يجب أن يبدأ بالنفس أولاً، فالله عز وجل يستجيب لمن يشرع بالعمل ويبدأ بالتغيير، وعندما يبذل اقصى الجهد ويفرغ ما في الوسع، لان السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولا ترحم الكسالى والمتثاقلين عن العلم والعمل والاجتهاد.
كما أن التغيير المطلوب ينبغي أن يكون مجتمعيّاً عاماً واسعاً، يشمل الأغلبية المؤثرة القادرة على صنع الحدث على مستوى المجتمع كله، وذلك أخذا بكلمة «ما بقوم»، والتغيير الاجتماعي لا يتم الاّ بشرط اتقان العمل المجتمعي الشامل، والاخذ بسننه، وامتلاك القدرة على انتاج الأطر الواسعة المرنة التي تستوعب الجهود المتعددة والمتنوعة التي يختزنها المجتمع، وتستطيع التعامل مع الاختلاف الحتمي، بالحكمة والاستيعاب المفضي إلى تحويل التعددية والتنوع إلى عامل قوة وبناء وثروة ايجابية، ولا تحوله الى عامل نزاع وفرقة وتعصب واقتتال وتدمير للذات! .
تغيير ما في النفس يشمل الأمور المعنوية، التي تشكل القاعدة الاساسية للأمور المادية الظاهرة، ويقصد بالأمور المعنوية: القيم والأفكار والمعاني والمضامين الاعتقادية والأخلاق، وكل ما يعمر القلب والعقل والوجدان، من معاني التسامح والتغافر والاحترام والتقدير التي تستهدف الرأي المخالف والاجتهاد الآخر،على قاعدة الحوارالوطني البناء، الذي يهدف الى الوصول للرأي الاكثر صوابا ونضجا، ومن اجل تمحيص الحق، والبحث عن الحكمة، عبر مسار تطويري يهدف إلى بلورة الأفكار، وتحويلها إلى واقع ملموس قابل للتنفيذ والقياس والتقويم.
إن الذين يلجأون إلى القوة والعنف والسلاح والسلطة والقهر من أجل فرض الدين؛ أو تصحيح الاعتقاد، أو نشر الفكر، فهؤلاء لا يفقهون دينهم، وعاجزون عن فهم مقاصده وتمثلها، فضلاً عن القدرة على التبشير بها أو توصيلها للآخرين،ويسيئون الى انفسهم ودينهم وامتهم واوطانهم ولا يحسنون.
إن الله عز وجل بعث الرسل، وأنزل الدين والرسالات، من أجل تحرير الناس عقلاً ووجداناً وإرادة،وبيان الطريق الصحيح، ثم ترك حسابهم للأخرة، ولذلك لا يجوز لمن يحمل الإسلام أن يجعل منه مادة لتفريق الأمة، وإثارة النزاع بين مكوناتها، وأن يسير بالمجتمع نحو الاقتتال وسفك الدماء وزهق الأرواح، ومن يحمل الفكر الإسلامي يجب أن يجعل منه مشروعاً نهضوياً حضارياً، قائماً على الفكر، ومؤسساً على القيم،و قادراً على انتشال الأمة من وهدة الضعف والتخلف والجهل والفرقة والتعصب،ويمضي بها نحو عالم التحضر والتقدم،والاتحاد والقوة، والإنجاز والإنتاج، وبناء الذات، والتخلص من أسباب الخذلان والتبعيّة والاعتماد على الأجنبي، ولن يستطع قيادة هذا المشروع الحضاري الكبير وحمله الجهلة وأنصاف المتعلمين.
( الدستور 2013-10-27 )