عُمراننا الذى فسد

تم نشره الأحد 10 تشرين الثّاني / نوفمبر 2013 01:20 صباحاً
عُمراننا الذى فسد
فهمي هويدي

حين وقعت على صورتين لمبنى الإسكندرية البديع قبل وبعد الانقضاض عليه وتشويهه قلت إنهما صورتان لمصر قبل الثورة وبعدها. ولا يحسبن أحد أن لدى أى تعاطف مع نظام ما قبل الثورة الذى أطل علينا بعض أذنابه برءوسهم هذه الأيام. ذلك أننى، أعتبره فاعلا أصيلا فى الجريمة، لأنه من زرع الفساد الذى كان تشويه المبنى ووجه مصر كلها من بعض حصاده.

أتحدث عن الصورة التى أبرزتها جريدة «الأهرام» على صفحتها الأولى يوم الأربعاء الماضى 6/11، التى أظهرت لنا بناية أثرية فى الإسكندرية تنتسب إلى الطراز الإيطالى، انقض عليها أحدهم فهتك جمالها وأزال ما فيها من بهاء وأصالة، لكى يضيف إليها بعض الطوابق، ويضفى على البناية مسخا ودمامة لكى يتكسب من ورائهما بما يشبع نهمه وجشعه. وتلك ليست حالة استثنائية، لأنها صارت تعبيرا عن ظاهرة تفشت فى الإسكندرية حتى أتت على وجه المدينة الصبوح، وملأته بالندوب والتشوهات. وقد حمدت للأهرام ما نشره ليس فقط لأنه سلط الضوء على الواقعة التى أزعم أنها بمثابة جرس إنذار ينبه إلى الظاهرة، وإنما أيضا لأنه اعتنى بشىء مما يحدث على أرض الواقع ويهم المجتمع. وهو ما يعد خروجا على مألوف الصحافة وبقية وسائل الإعلام فى مصر، المستغرقة فى ملاحقة تجاذبات وصراعات النخبة، بما تستصحبه من ثرثرة وتكهنات، بعضها يتعلق بفرعون مصر القادم، والبعض الآخر يدور فى فلك جهود الكهنة وحظوظهم، إلى غير ذلك من العناوين مقطوعة الصلة بالهموم الحقيقية للمجتمع.

لقد دعا الأهرام إلى محاسبة مالك العقار، لكنى أزعم أنه ليس الجانى الوحيد، لأن فساد المحليات له دوره فى التستر على مثل هذه الجرائم والترخيص بها فى كثير من الأحيان، كما أن انشغال السلطة بالأمن السياسى وانصرافها عن أمن المجتمع. شجع أمثال هذا المالك على ان يتجرأوا على القانون، وهم مطمئنون إلى أن الدولة غائبة ومنشغلة بغيرهم. ثم إننا لا نستطيع أن نعفى الرقابة الشعبية من المسئولية أيضا. حيث من حقنا أن نسأل: لماذا أغمض المجتمع أعينه عما جرى لهذه البناية التاريخية وغيرها، ولماذا لم يتحرك ممثلو المجتمع ونخبه التليفزيونية للدفاع عن جماليات المكان وبهائه.

أعترف بأن لدى فضلا عما سبق دافعى الخاص فى انتقاد هذه الفوضى التى ملأت وجه مصر بالدمامة والقبح. ذلك أننى أسكن فى حى هادئ بمصر الجديدة، تعرض لهجمة تتارية من ذلك القبيل الذى نحن بصدده خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فتحول من منطقة سكنية وادعة إلى ساحة مورست فيها مختلف أشكال العربدة العمرانية التى ملأت الحى فى غفلة من الجميع بالأبراج العالية والمقاهى الصاخبة، حتى صار سكانه يشعرون بغربة شديدة. ولا يجدون من يجيب عن تساؤلاتهم التى لا تتوقف عن شبكة المصالح وثغرات القانون ومظان الفساد التى وقفت وراء ذلك الانقلاب الذى حول حياة السكان إلى جحيم طارد لراحتهم، بل طارد لوجودهم فيه.

إننى لا أخفى شعورا بالذنب وأنا أكتب هذه الكلمات التى ظللت أحبسها طول الوقت وأتاحت لى واقعة الإسكندرية أن أبوح بها أخيرا، ذلك أننى استشعر حرجا شديدا حين أبث هموم بعض سكان المدن سواء تعلقت بجمالياتها أو فساد العمران فيها، لأننى أعرف جيدا أن معاناة وعذابات أهلنا فى أنحاء الدلتا وفى صعيد مصر وفى سيناء، أضعاف هذا الذى نشكو منه، وقد يبدو هذا الذى نتحدث عنه نوعا من الترف الممجوج، لأن هؤلاء البعيدين عن القلب وعن العين يحسدوننا على هذا الذى نتبرم به ونتأفف منه، ذلك أنهم يعيشون فى ظل جحيم من نوع آخر، أقسى وأفدح. بين أناس يشربون مياها ملوثة، وآخرين لم يعرفوا التيار الكهربائى أو الصرف الصحى، وأناس يعانون من البلهاريسيا والكبد والوبائى، ويفتقدون إلى أبسط الخدمات التى تحفظ لهم الحد الأدنى من الإنسانية، فى التعليم والصحة والإسكان. كما يتضاعف شعورى بالخجل حين أشكو من زحف الأبراج وفوضى المقاهى وضجيجها، فى حين أجد أن 40٪ من أبناء الشعب المصرى يعيشون تحت حد الفقر.

صحيح أننا نتفاوت فى المعاناة، إلا أن ذلك لا يغيب حقيقة أننا جميعا ضحية الدولة الظالمة، التى شغلتها مغانم السطة عن رعاية مصالح الخلق، فقوى الرأس وتهتك الجسد، وحين صرنا بلا عافية ولا حول شاع بيننا فساد العمران وعانى منه الجميع فى المدن والقرى.

( الشروق المصرية 2013-11-10 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات