مبادرة قبرصية في الاتجاه الصحيح

انقسمت جزيرة قبرص قبل عدة سنوات إلى دولتين متخاصمتين، لكل دولة قومية ونظام حكم،وعلم وحدود، كما تمت إقامة حاجز مادي ونفسي عميق بين الجزءين الشمالي والجنوبي، لم تستطع الجهود الدولية إعادة توحيد شطري الجزيرة ،رغم ما بذل من جهود دولية، ورغم ممارسة كم كبير من الضغوط والحوافز الاوروبية.
أدرك بعض القبارصة أن الاستمرار بمنهجية إثارة الأحقاد التاريخية، والاستمرار بتعبئة الأجيال بالكراهية وتعميق الحاجز النفسي عبر الممارسات السياسية، يعد من أكبر العوائق أمام النجاح في تحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام، ما أدى إلى ولادة مبادرة تبناها عدد من القيادات الاجتماعية والتربوية في شمال قبرص تدعو إلى تغيير المناهج التربوية وخاصة فيما يتعلق بمادة التاريخ، بحيث تسهم بتنشئة جيل جديد يخلو من الأحقاد التاريخية، ويكون أكثر ميلاً للتسامح، ويؤمن بوحدة الجزيرة، رغم التعدد العرقي والقومي والديني في الجزيرة الصغيرة، وتمليك الأجيال الجديدة القدرة على التعايش المشترك،وتنمية عوامل الوحدة بين مكونات الشعب الواحد اصلا.
هذه المبادرة تمتلك رؤية استراتيجية بعيدة المدى تقوم على مهجية صحيحة في إنشاء الأجيال الجديدة، ينبغي أن تكون محل نظر ودرس وقدوة لدينا نحن العرب والمسلمين في مجمل أقطار العالم العربي الإسلامي، وفي هذا السياق يجب التنبيه إلى جملة من الظواهر التي تطفو على السطح السياسي والاجتماعي في اغلب بلداننا وافطارنا.
فعلى الصعيد المحلي هناك من يحمل لواء المظلومية وعقدة الاضطهاد! ويتبلور ذلك على شكل مطالبات سياسية وتجمعات وصالونات، تلعب على وتر الغرائز! وتعزز منهجية المحاصصة، التي تعد وصفة جاهزة وناجحة للانقسام المجتمعي، وتعمل على إقامة الحواجز النفسية لدى الأجيال القادمة، ما يهيء البيئة لاستنبات صراع أهلي لا نهاية له ولا أفق.
وعلى صعيد العالم الإسلامي يتم الاستثمار السياسي الممنهج في ذكرى عاشوراء «ذكرى مقتل الحسين»، لإعادة التعبئة الحقدية، وتعزيز الانقسام المذهبي العميق بين مكونات الشعب الواحد، عن طريق إبقاء الجرح التاريخي نازفاً على مدى الدهر، لتأجيج مشاعر الانتقام وزيادة منسوب الدم ! بإشراف بعض الدول وبعض الاطراف السياسية التي تقتات على التعصب المذهبي، الذي يحول دون وحدة العالم العربي الإسلامي، وأصبح ذلك فرصة مناسبة للعدو الصهيوني وحلفائه في الغرب والشرق من أجل تمزيق العالم العربي والإسلامي، وزيادة الهوة بين شعوبه وأقطاره، وتعميق الحواجز النفسية بين مكوناته الاجتماعية، ليبقى مشغولاً بنفسه وليبقى مستنزفا في معارك الطحن الذاتي ، التي تعوق التنمية وتحول دون امتلاك عناصر القوة ، من اجل ادامة السيطرة الخارجية على قراره السياسي،وادامة الهيمنة على مقدراته.
هذه المسائل الخطيرة لا يمكن معالجتها عبر منهج الوعظ والإرشاد فقط،ولا عبر الشعارات المرفوعة، بل يحتاج إلى إعادة إنشاء أجيال جديدة تتربى على أواصر الوحدة والتقارب والعيش المشترك، والبعد عن إثارة ونبش الأحقاد التاريخية، والبعد عن منهج التعصب وخطاب الكراهية والفرقة. ما يحتم الشروع في إيجاد مناهج تربوية جديدة تعالج هذا الموضوع بطريقة حكيمة و متدرجة؛ تكون محل توافق بين أقطار العالم العربي والإسلامي، وفي هذا السياق فإن منظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية وجميع الجهات والمنظمات المختصة معنية لمعالجة هذه القضية لأنها تشكل أولوية الأولويات.
( الدستور 16/11/2013 )