الإدارة الكردية بين لعبة المحاور وفقر الوطنية السورية

جاء إعلان "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي عن "الإدارة المدنية المؤقتة" في المناطق الكردية في سوريا ليزيد من انقسام قوى المعارضة المقسمة، ويجعل من السؤال حول إمكانية تأسيس عقد اجتماعي جديد بين هذه القوى أمرا مشروعا، في ظل تفضيل تلك القوى تقديم رؤيتها الأيديولوجية على ما تتطلبه الحالة السورية من تفاهمات سياسية بين مكوناتها الأهلية والمجتمعية.
خطوة تأتي بعد سنتين من مواقف "ضبابية" و"غير مفهومة" من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي تجاه الثورة السورية، وتأكيده أن تلك المواقف تنطلق من قاعدة الحفاظ على المناطق الكردية، وعدم الزج بها في الصراع المسلح بين المعارضة والنظام، رغم كونه الفصيل الوحيد المحتكر للسلاح في المناطق الكردية بعد تأسيس جناحه العسكري المعروف باسم "قوات الحماية الشعبية" صيف العام 2011.
بيد أن هذا الإعلان -الذي أتاح لحزب الاتحاد الديمقراطي فرض تصوره السياسي والأيديولوجي على جزء من المجتمع السوري مستفيدا من ضعف المعارضة والنظام- لا يمكن تفسيره إلا في ضوء عدة عوامل واعتبارات، وأهمها الصراع "الكردي- الكردي"، وهو ما يدل عليه الخطاب العدواني والحرب الإعلامية بين حزبي "البارتي" "الديمقراطي الكردي في سوريا" و"حزب الاتحاد الديمقراطي"، ومن خلفهما صراع الحزبين الكبيرين: "الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق" و"حزب العمال الكردستاني في تركيا"، وتقديم كل منهما نفسه على أنه الحزب الأكثر شعبية ونفوذا بين الأكراد، وصولا إلى ارتباط وتقارب كلا الحزبين من محاور إقليمية متصارعة في سوريا.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني إلى مدينة ديار بكر بالتوازي مع الحديث عن نيته إعادة تأسيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني في تركيا"، وسبقت ذلك تطورات ميدانية في مناطق شمال شرقي سوريا باستيلاء "قوات الحماية الشعبية" على معبر "اليعربية"، وتردد الأنباء حول رغبة حزب الاتحاد الديمقراطي في الاستغناء عن معبر "سيمالكا" الحدودي الرابط بين إقليم كردستان العراق والمناطق الكردية في سوريا، وما نتج عنه من مغازلة "حزب الاتحاد الديمقراطي" للحكومة العراقية، والتقرب من المحور الإيراني.
هكذا، وبانخراط "حزب الاتحاد الديمقراطي" في سياسة المحاور الإقليمية، وتقربه من المحور الإيراني، يكون قد وجه ضربة للمرتكز الأساسي في حل القضية الكردية في كامل المنطقة، والمعتمد بشكل أساسي وجوهري على إشاعة النمط الديمقراطي والمناخات الديمقراطية في المنطقة، تلك المناخات التي لا تستطيع "دولة دينية" و"ثيوقراطية" مثل إيران تقديمها وتوفيرها.
يضاف إلى ذلك ما تلحقه سياسة إيران بـ"الكيانية السورية" من أضرار، وقد بدأت -ومنذ فترة غير قريبة- العمل على احتضان "النزعات غير الوطنية" لدى الأقليات السورية، ودفعها لتشكيل مليشيات خاصة بها، على أمل أن تؤسس شبكة حلفاء في أنحاء سوريا تحافظ على المصالح الإيرانية في حال مغادرة أو إسقاط النظام الحالي في دمشق.
والحقيقة، أن خطوة حزب الاتحاد الديمقراطي أظهرت حدة التنافر الأيديولوجي بين القوى السورية المعارضة، مع افتقاد الصراع "إطاره الوطني"، وتباين المواقف المعارضة من "المطالب الكردية"، والتعاطي معها بخطابية عامة وفضفاضة عن "الدولة المدنية" و"التعددية الديمقراطية" و"المواطنة الصالحة"، وانعكس ذلك في انهيار عامل الثقة، وسهولة تطويع القوى الكردية السورية من قبل قوى كردية إقليمية، وفق توجهاتها ومصالحها.
الواقع، أن رسالة مشروع "الإدارة المؤقتة" تتجاوز حدودها الجغرافية وحالتها المناطقية، ويراد لها أن تكون عامل ضغط على تركيا، ومحاولة لإرباك حكومة العدالة والتنمية في ملف عملية السلام مع "حزب العمال الكردستاني"، وما تشهده تلك العملية من شد وجذب بين طرفي الصراع، وإظهار "حزب الاتحاد الديمقراطي" بكونه النسخة السورية لحزب "العمال الكردستاني" على أنه بات قوة فعلية على طول الحدود السورية التركية.
ومثلما يحمل إنجاز "الإدارة المؤقتة" رسالة إلى قوى إقليمية، فإنه لا يغفل الداخل السوري ومآلاته، وقد جاء الإعلان عنها بعد التقدم الميداني الكبير الذي أحرزته "قوات الحماية الشعبية" في كامل المناطق الكردية في مواجهة الكتائب الإسلامية المسلحة، ورغبة الحزب في الاستفادة من تقدمه العسكري سياسيا بتثبيت نفسه كطرف فاعل في التسوية السياسية المرتقبة للمسألة السورية في مؤتمر "جنيف 2"، على أنه الممثل الأقوى وصاحب السلطة الفعلية بين أكراد سوريا.
ثمة اعتقاد بأن النظام في تجاهله إعلان "الإدارة المؤقتة" إنما يعبر عن مباركته لهذه الخطوة، باعتبارها تحمل رسالتين متناقضتين، الأولى كونها بوابة المستقبل السوري نحو إيجاد صيغ "لامركزية" و"فيدرالية" لمكوناتها الأهلية المتحاربة، ما يفتح الطريق أمام تأسيس إقليم "علوي" في مناطق الساحل في حال جاءت نتائج مؤتمر "جنيف2" بعكس توقعاته، والثاني أن النظام القائم بطبيعته السابقة هو الضامن الوحيد لوحدة سوريا وأرضها.
وبعيدا عن مواقف النظام، فإن أي مشروع سياسي كردي في سوريا لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة/العربية-الكردية على مستوى الوطن السوري برمته، وعدم اقتصار تلك المراعاة على عرب منطقة الجزيرة عبر إشراك بعض ممثليهم في "الإدارة الانتقالية".
ذلك أن حل القضية الكردية في سوريا يتطلب بالضرورة حلا وطنيا شاملا، وهو مرتبط بشكل عضوي مع المصير السياسي لكامل الدولة السورية المستقبلية، لذا لا بد من البحث عن المساحات المشتركة بين المكونات السياسية والأيديولوجية، والتأسيس عليها لبناء عقد اجتماعي جديد، وإخراج العلاقة "العربية-الكردية" من خانة التوتر والتوجس، وتجاوز التناقض القومي المؤطر بسياقات أيديولوجية جامدة التي استثمر فيها حزب "البعث" على مدى عقود، بإصدار المشروعات والمراسيم والقوانين الجائرة بحق الكرد تحت غطاء ادعاء "العروبة" و"رسالتها الخالدة" دون أن يستدعي ذلك مواقف من أحزاب وطنية، ما نتج منه انغلاق الكرد على بعضهم.
في المقابل، يمكن القول إن القوى الكردية فشلت في تسويق نفسها كقوى سورية معتدلة تطمح إلى بناء سوريا ديمقراطية ومتعددة، ولم تستطع تجاوز موقعها وذهنيتها المبنية على أسس "عقدة الاضطهاد" و"الأقليات"، ولم تتقن ممارسة السياسة خلال الثورة السورية إلا من باب "الابتزاز والاستثمار" في المأساة السورية، ومحاولتها الحثيثة لتفصيل "الوعي الثوري" في سوريا وفق مقاساتها وأجندتها، ما يمكن اعتباره من الأخطاء الكبرى مثلما أخطأت المعارضة، وعلى رأسها "الائتلاف" حين وفرت الغطاء السياسي، ووقفت على الحياد أمام هجمات الكتائب "المتطرفة" على المناطق الكردية.
الواضح أن مشروع "الإدارة المؤقتة" لحزب الاتحاد الديمقراطي شبيه بمشاريع المجالس المحلية في المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة، حيث يغلب عليها طابع المناطقية على أطراف المدن الزراعية السورية ذات الصبغة والتوجه الأيديولوجي الواحد.
أي أنها من المشاريع التي ما زالت تعيش على الهامش في ظل احتفاظ النظام بمراكز المدن الزراعية والكبيرة، ومرافقها الاقتصادية المركزية، لذا ستبقى هذه المجالس ومسألة استمراريتها موضع شك كونها لا تعتمد على مشروع وطني شامل.
مختصر القول، إن مستقبل أي مشروع كردي سياسي في سوريا مرهون ليس فقط بالغطاء السياسي الذي قد يوفره نظام ديمقراطي مبني على عقد اجتماعي جديد، بل مرهون بإرادة الحياة والعيش المشترك الذي يجمع السوريين بكل انتماءاتهم القومية والعرقية والمذهبية.
( الجزيرة 2013-12-08 )