عودة ائتلاف يسار الوسط إلى الحكم في تشيلي

تم نشره السبت 21st كانون الأوّل / ديسمبر 2013 12:59 صباحاً
عودة ائتلاف يسار الوسط إلى الحكم في تشيلي
توفيق المديني

فازت مرشحة يسار الوسط ميشيل باشليه (61 سنة) في الانتخابات الرئاسية التي أجريت الأحد 15 ديسمبر الجاري في تشيلي، بنحو 62% من الأصوات، متقدمة على منافستها اليمينية إيفلين ماتي بنحو عشرين نقطة (37.8%).وبلغت نسبة الامتناع عن التصويت 59%، وهو رقم قياسي منذ عودة الديمقراطية إلى هذا البلد في عام 1990، وهو ما يعكس نفور المواطنين التشيليين من الأحزاب السياسية.

في ظل مجتمع تشيلي محافظ، هو الأكثر محافظة في أمريكا اللاتينية، حيث تعتبر الكنيسة الكاثوليكية قوية جدا، وحيث الإجهاض حتى الطبي لا يزال يعدّ جريمة، وحيث الطلاق لم يشرع إلا قبل ثماني سنوات، كان من المستحيلات قبل سنوات أن تصعد امرأة إلى قمة السلطة لتخلف الرئيس الاشتراكي ريكاردو لاغوس في مارس2006.ومع ذلك فازت مرشحة يسار الوسط ميشيل باشليه (54 سنة) في الانتخابات الرئاسية التي أجريت الأحد15 يناير 2006في تشيلي، وباتت المرأة الأولى التي تصل إلى الرئاسة بالاقتراع العام المباشر في بلادها، والقارة الجنوبية.

بين 2006 و2010، كانت باشليه أول امرأة رئيسة تنتخب في أمريكا الجنوبية.الأحد الماضي انفجرت شوارع العاصمة التشيلية سانتياغو فرحا بمناسبة عودتها إلى سدة الرئاسة ثانية، حيث قالت بمناسبة ترشحها: آن الأوان لقيادة تحولات عميقة في البلاد، مضيفة " أن هذا الفوز هو انتصار لحلم جماعي".وسوف تستلم باشليه مهامها الرئاسية يوم 11مارس 2014.

الأغلبية الاشتراكية الديمقراطية (يسار الوسط:هو تحالف يجمع ديمقراطيين مسيحيين وليبراليين واشتراكيين ديمقراطيين واشتراكيين)، هي التي قادت تجربة الانتقال الديمقراطي في تشيلي منذ نهاية حكم الديكتاتور التشيلياني الراحل أوغوستو بينوشيه، وعودة الديمقراطية إلى تشيلي في عام 1990، وحكمت البلاد لمدة عشرين سنة من عام 1990 ولغاية 2010، تعود من جديد إلى الحكم بعد أربع سنوات من حكم اليمين الليبرالي بقيادة الملياردير المحافظ سيباستيان بينيرا زعيم "التكتل من أجل التغيير": يمين الوسط.

الائتلاف القديم (التوافق الديمقراطي)أصبح " الأغلبية الجديدة"حيث شهد انضمام الحزب الشيوعي إلى صفوفه،الذي لم يشارك في أي حكومة منذ أربعين عاماً، أي منذ حكم الرئيس الاشتراكي الراحل سلفادور ألندي (1970-1973).لقد نجح الائتلاف في العودة إلى الحكم بعد ولاية واحدة لليمين الليبرالي، والفضل في عودته يعود إلى الشخصية الكاريزماتية للرئيسة ميشال باشليه التي أثبتت قدراتها وصلابتها عبر مسيرة حياتها الحافلة، إذ ولدت ميشال باشليه في 29 سبتمبر 1951 في سنتياغو، وجابت في طفولتها كل أرجاء تشيلي، إذ كانت العائلة تتنقل تبعاً لانتقال مركز عمل الوالد الذي كان طياراً في الجيش.وعام 1970 بدأت دروساً في الطب وانتسبت إلى الشبيبة الاشتراكية..وبعد الانقلاب العسكري الدموي في 11 سبتمبر 1973، على الحكومة الاشتراكية الديمقراطية المنتخبة بقيادة الزعيم سلفادور أليندي، واستيلاء الطغمة العسكرية بقيادة الجنرال بينوشيه على السلطة، الذي حكم البلاد بالحديد والنار،تحدّت كل الأخطار بمساعدتها المناضلين الاشتراكيين الذين يعملون في السرية، وعائلات المساجين السياسيين.

إن ميشال باشليه هي ابنة ألبرتو باشليه، وهو ضابط برتبة جنرال في الطيران، من أصل فرنسي، وماسوني، وكان مقرباً جدا من الزعيم الاشتراكي الراحل سالفادور اليندي، وتوفي بعد ستة أشهر في السجن نتيجة التعذيب..وفي العاشر من يناير 1975، اعتقلتها أجهزة الاستخبارات مع والدتها واقتادتهما إلى فيلا غريمالدي، أحد مراكز التعذيب في تشيلي. ومع الإفراج عنهما بعد 20 يوماً، سلكتا طريق المنفى قاصدتين أستراليا ثم ألمانيا الشرقية حيث واصلت ميشيل تحصيلها الجامعي. وعام 1979، عادت ميشيل مع طفلها سيباستيان المولود عام 1978 إلى تشيلي حيث حصلت عام 1982 على شهادتها في الجراحة، غير أنها لم تتمكن من الحصول على وظيفة في القطاع العام "لأسباب سياسية".وقد أفادت من منحة دراسية مكنتها من التخصص في طب الأطفال والصحة العامة، وعام 1984 انجبت ابنتها فرانشيسكا.

وفي موازاة كل ذلك، عملت في منظمة غير حكومية تساعد أطفال ضحايا الديكتاتورية.وبعد الانتقال الديمقراطي في البلاد عام 1990، كثفت عملها طبيبة في قطاع الصحة العامة وعضواً في اللجنة الوطنية لمرض العوز المناعي المكتسب "الايدز" ومستشارة لمنظمة الصحة العالمية.وكانت باشليه ترى أن الحزب الاشتراكي الذي تنشط في صفوفه يهمل القطاع العسكري، فباشرت دروساً في الاستراتيجية العسكرية في سانتياغو وفي الدفاع القاري في واشنطن.وعندما وصل إلى السلطة الرئيس لاغوس في عام 2000، عهد إليها في وزارة الصحة وكلفها إجراء إصلاح واسع النطاق في هذا القطاع، كما كانت عام 2002 المرأة الأولى وزيرة للدفاع في أميركا اللاتينية ودعت في الذكرى الـ30 للانقلاب في تشيلي إلى مصالحة بين المدنيين والعسكريين. ومع هذا الموقف تحديداً، اتسعت شعبيتها وحلقت.

إن فوز باشليه الانتخابي من جديد، هو انتصار مثلث: انتصار لائتلاف يسار الوسط المتكون من الديمقراطيين المسيحيين، والحزب الراديكالي، والحزبين الاشتراكيين،و الحزب الشيوعي،وانتصار للاشتراكيين، وانتصار شخصي لها. وهذا الفوز يظهر أيضا قوة اتحاد يسار الوسط الحاكم في تشيلي منذ عشرين عاما (1990-2010)، حيث نجح في جعل تشيلي تحتل المرتبة الأولى في تخفيض نسبة الفقر من 45% عام 1990 إلى 14.4% في عام 2011.ولا يزال العمل يتطلب من الرئيسة باشليه المنتخبة حديثا بذل المزيد من الجهود من أجل تخفيض نسبة الفروق الطبقية في المجتمع التشيلي.

من دون تعليمي مجاني وعمومي، لا يمكن تحقيق التكافؤ في الفرص، وهذا ما جعل الشبيبة الطلابية في تشيلي تطالب بالقيام بإصلاح جذري لنظام التعليمي في مستوياته الثلاثة: الابتدائي والثانوي والجامعي،و إعادة توزيع الدخل الوطني بصورة عادلة، عبر سن قانون ضريبة متدرج على الدخل، يسهم في تجسير الهوة بين الأغنياء والفقراء، التي تهدد النسيج المجتمعي، وتجعل المشاركة الشعبية في الديمقراطية من دون أي قيمة..

بصعودها إلى قمة هرم السلطة، فإن الرئيسة باشليه مطالبة بالالتزام بتطبيق الخطوط العريضة لبرنامجها الانتخابي، وفي مقدمة ذلك، تبني دستور جديد للبلاد، يعوض الدستور الذي فرضته الديكتاتورية العسكرية في عام 1980، والقيام بإصلاح ضريبي، حيث اقترحت باشليه في برنامجها الانتخابي زيادة الضريبة على أرباح الشركات بنسبة 8 مليارات دولار، أي ما يعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي، تكون مخصصة لإعادة إصلاح النظام التعليمي، وإصلاح النظام الصحي، وبناء مساكن شعبية، وتحسين الخدمات العامة.

ماذا يمكن أن يظهر لنا وصول هذه الأم العزباء لثلاثة أولاد من والدين مختلفين انفصلت عن كليهما، والعلمانية، إلى قمة السلطة في بلد كاثوليكي تقليدي تطغى عليه النزعة الذكورية، وتحتل فيه العائلة مركزية القيم، على نقيض جيرانه الأمريكيين اللاتينيين الذين يعيشون حياة عاطفية وسياسية متقلبة جدا؟

إنه يظهر لنا الصعود القوي للنساء في الحياة السياسية في قارة أمريكا اللاتينية، كما في أماكن أخرى،وفي بلدان ليست بالضرورة متقدمة.إن تشيلي بلد محافظ جدا،بل متزمت في تشدده الديني.وكانت الكنيسة تبنت خطا سياسيا مغايرا في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما جسدت القطيعة مع معظم الديكتاتوريات العسكرية التي حكمت أمريكا اللاتينية،لكنها ظلت دائما في خط البابا. ومع ذلك تبنى قسم كبير منها إيديولوجية لاهوت التحرير.فتحول بذلك القساوسة إلى شيوعيين ثوريين مدافعين عن الفلاحين الفقراء، وانخرطوا في حروب العصابات ضد الأنظمة العسكرية والديكتاتوريات التي كانت تحظى بدعم واشنطن وتأييدها.والحال هذه،فإن انتخاب الرئيسة ميشال باشليه يعبر عن ظاهرة تغيير عميقة في العقليات:إنه يظهر لنا أيضا أنه بعد عقدين من الانتقال إلى الديمقراطية، أن تشيلي تحدثت بصورة عميقة.

( الشرق 21/12/2013 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات