علمنا ماذا يرفضون ولكن ماذا سيفعلون؟!

رغم أن من الصعب القول إن تحركات كيري الأخيرة فيما خصّ القضية الفلسطينية لن تأت بنتيجة عملية، أيا تكن تلك النتيجة (اتفاقا شاملا، أم اتفاق إطار)، فإن سؤال الموقف التالي يبقى معلقا حتى لو لم تسفر تلك الجهود عن أي من الاحتمالين، وبقي الوضع القائم على حاله.
هنا نفتح قوسا لنذكّر بأن الوضع في الضفة الغربية لم يبق على حاله منذ سيطرت المجموعة التي تآمرت على ياسر عرفات واستولت على السلطة والمنظمة وحركة فتح، بل تطور على نحو ما كان يخطط له شارون في رؤيته للحل الانتقالي بعيد المدى، وإن بوتيرة بطيئة.
وفي ظني أن القيادة الجديدة كانت تتعاون مع هذا المسار بكل إخلاص، أولا عبر المسار الأمني الذي رسمه دايتون ومن جاؤوا بعده، والذي لم يتغير، بل يمضي في سبيله بكل جد، أعني مسار التنسيق الأمني، والفلسطيني الجديد الذي لا يتهاون في التعاون مع الاحتلال تحت ذريعة الحفاظ على الأمن الفلسطيني. وثانيا عبر المسار الاقتصادي (بإشراف تاجر الشنطة توني بلير). وهو مسار يتعاطى مع السلطة كما لو كانت دولة لجهة المال والأعمال والاستثمار، على نحو يجعل الوضع لا يقبل العودة إلى الوراء.
وحين تشرع السلطة في تجاوز هذه المرحلة وصولا إلى عقد اتفاقات اقتصادية بعيدى المدى مع سلطة الاحتلال، كما هو حال اتفاق الغاز (لمدة عشرين عاما)، فإن ذلك يعني أننا إزاء مسار لا رجعة عنه في عقل السلطة أيا تكن نتيجة التفاوض الراهنة.
حين جاءت المجموعة المشار إليها إلى السلطة كان برنامجها يتلخص في إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاع انتفاضة الأقصى نهاية أيلول من العام 2000، وحتى الآن يمكن القول إن ذلك قد حدث تقريبا، مع فارق أن الجيش الإسرائيلي يدخل ويخرج إلى سائر المناطق، بما فيها مناطق (أ) حسب تصنيف أوسلو، حتى مئات من الأمتار قرب مقر الرئيس، ويعتقل من يشاء، بل ويقتل إذا لزم الأمر، وهو ما كان قد تغير في ذلك التاريخ، ولا يؤدي كل ذلك سوى إلى استنكار عابر من طرف السلطة، لاسيما أنها لا تقل إخلاصا في إغلاق جميع النوافذ التي يمكن أن يتسلل من خلالها فكر الانتفاضة الجديدة، فضلا عن ممارسات يمكن أن تشعلها بالفعل.
قبل أيام أخبرنا إيهود أولمرت أن محمود عباس كان قد وافق على أن تكون القدس عاصمة للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، على أن تبقى السيطرة الإدارية والأمنية لسلطات الاحتلال، أي بمثابة شيء مشابه لما هو الحال عليه الآن، مع فارق إمكانية منح دولة فلسطين العتيدة بعض السلطات في مناطق محسوبة على القدس، مثل بيت حنينا أو شعفاط، وربما تتحول إلى عاصمة!!
وحين نقرأ وثائق التفاوض الشهيرة نجد أن كلام أولمرت لم يبتعد كثيرا عن الحقيقة، لكن الرفض كان من طرف الاحتلال الذي لم تأبه مندوبته (تسيبي ليفني، وهي ذاتها هذه الأيام) بكبير مفاوضينا (عريقات) حين قال لها إنه يعرض عليها “أكبر أورشيلم في التاريخ اليهودي”.
ونقرأ في ذات السياق، وهنا الخطورة تلويح بعض وزراء نتنياهو بانسحاب من جانب واحد إذا فشلت المفاوضات التي يديرها كيري، ما يعني تكريس واقع الدولة الفلسطينية في حدود الجدار الأمني، فيما سيكون بوسع عباس أن يواصل القول إنه لم يعترف ولم يوقع، وأنه متمسك بالثوابت، حتى لو نسخ حق العودة من تلك الثوابت عبر سيل من التصريحات التي يتجاهلها من يطبلون له (بمن فيهم لاجئون في الخارج مع الأسف)، على شاكلة أنه لا يريد إغراق دولة الاحتلال باللاجئين، وعلى شاكلة الحديث عن حق العودة، ولكن إلى أستراليا وكندا، مع التأكيد على أن لاجئي الأردن وأوروبا مرتاحين في أماكن وجودهم. وأضف إلى ذلك قبوله بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة تحت مسمى تبادل الأراضي، وموافقته على بقاء الاحتلال في الغور لخمس سنوات، إلى ما هنالك من تنازلات.
والنتيجة أن عدم توقيع عباس حتى على اتفاق إطار (غامض)، فضلا عن تسوية مشوّهة، لن يعني الكثير من حيث النتيجة العملية، ممثلة في تصفية القضية عبر دولة في حدود الجدار، قد تحصل على الاعتراف الدولي الكامل لاحقا، فيما هو يصر على أنه لم يتخلّ عن الثوابت (أية ثوابت؟!)، ويطبل له المطبلون بعد الاعتراف الدولي.
من هنا قلنا وسنظل نقول إن القضية برسم التصفية أيا تكن النتيجة، ولن يمنع ذلك سوى تحالف من كل القوى وحتى الرموز في الداخل والخارج ضد التفاوض وضد التفريط، بل وضد الإبقاء على الوضع الراهن، ومع إطلاق انتفاضة شاملة في كل الأرض الفلسطينية عنوانها دحر الاحتلال دون قيد أو شرط عن الأراضي المحتلة عام 67، كمقدمة لتفكيك المشروع الصهيوني برمته.
(الدستور 2014-03-04)