لوحة أردنية جميلة وحقيقة مذهلة

من يرقبْ المشهد الأردني عقب استشهاد القاضي «رائد زعيتر» يصلْ إلى جملة من الحقائق على قدر كبير من الأهمية، وبالغة التأثير في إعادة الذاكرة للشعب الأردني، وذات أثر واضح في تشكيل ذاكرة الجيل القادم، فيما يخص الحاضر والمستقبل، إذْ ينبغي أن يكون ذلك درساً لكل السياسيين ولكل النخب ولكل القوى الاجتماعية.
أجمع الأردنيون بكل اتجاهاتهم وأحزابهم وأعراقهم على تشكيل موقف جمعي موحد يتمثل بضرورة الارتفاع إلى مستوى الحدث، وضرورة امتلاك القدرة على صيانة الكرامة الوطنية وحفظها، وضرورة مغادرة مربع الخنوع والخضوع المذل لمنطق الاحتلال المتغطرس الذي ينطلق من عقيدة عنصرية مريضة تبيح له قتل كل من هو عربي، دون شعور بالذنب، ودون احساس بالجريمة، ودون خوف من توقع العقاب.
الحقيقة الكبرى التي نطق بها المشهد الأردني تقول: إن أغلب المشاكل المستعصية التي يعاني منها الشعبان الأردني والفلسطيني هي نتيجة جريمة «الاحتلال» التي يحاول العدو وحلفاؤه وكل المتواطئين مع هذه الجريمة تسويغ هذا الفعل الشاذ، وإصباغ الشرعية على الاحتلال وأعمال الاستيطان، ويعملون جاهدين على التكيف مع آثار هذا العدوان الغاشم ويدعون كل الأطراف الى التعامل مع هذا الواقع الجديد والاستسلام الناعم لنتائجه الحتمية بعرفهم.
الأردنيون يدركون بفطرتهم أن العدو الأول والأكبر والأشد خطورة على مستقبل الأردن والعرب هو الاحتلال الصهيوني، الذي يشكل رأس الحربة لمشروع الغزو الحضاري الاستعماري الذي تقوده دول الاستكبار العالمي، وأن هذا العدو المحتل لا يقتصر تهديده على فلسطين وشعبها، وإنما يستهدف العالم العربي والإسلامي كله من طنجة إلى جاكارتا، وهو ما يطلقون عليه الشرق الأوسط الجديد، أو الشرق الأوسط الكبير الذي ينبغي أن يبقى مفككاً ومفرقاً وضعيفاً وعاجزاً ومتخلفاً.
جانب من هذه الحقيقة الصارخة يتمثل بأن العدو الصهيوني المحتل، يعمل على نقل مواجهة الفلسطينيين والعرب مع الاحتلال، إلى ساحات أخرى، وخلق أعداء جدد، وخلق صراعات جديدة واصطفافات بديلة، من أجل إشغال الفلسطينيين مع العرب وإشغال العرب بأنفسهم، تحت وقع مشاكل حياتية جديدة وتفصيلية يستجيب لها المغفلون.
وقد استطاع الكيان الصهيوني تحقيق بعض النجاح على صعيد هذه الإستراتيجة الخبيثة في توجيه دفة الصراع، وما يستخدمه من أساليب ووسائل، لصرف الأنظار عن جريمة الاحتلال وأعمال الاستيطان، وما تقوم به من أعمال ممنهجة تتمثل بتفريغ فلسطين من أهلها، بكل السبل وعلى جميع الأصعدة التي تشمل العنف والقتل، وهدم البيوت، وعدم السماح بتجديد البناء وترميمه فضلاً عن البناء الجديد للفلسطينيين في مدنهم وقراهم وأرضهم، بالإضافة إلى استخدام كل وسائل التضييق والمطاردة والإذلال والإهانة على الحواجز الأمنية وعلى الحدود ولكل من يحاول الرجوع إلى فلسطين ولو على سبيل الزيارة المؤقتة، وما حدث مع الشهيد رائد زعيتر يميط اللثام عن وجه من وجوه السياسة الصهيونية الممنهجة التي يدركها الفلسطينيون والعرب بكل وضوح.
هناك قلة قليلة تحاول الاستجابة لمخطط العدو، وتعمل فعلاً على تسهيل مهمة العدو في نقل المواجهة إلى داخل الصف العربي، وحتى هذا المشهد الوطني الرائع الذي نقل الشعبين الأردني والفلسطيني إلى الالتحام في مواجهة العدو المشترك، نجد بعضاً من صناع الفتنة من يخرق هذه القاعدة ويخرب صورة المشهد، ويعود لنبش عوامل الفرقة والتعصب من أجل خلق مواجهات جانبية اعتماداً على تهييج الغرائز، واللعب على وتر المظلومية والتنافس على الغنائم، والصراع على بقايا ماتركه العدو لنا في فلسطين والأردن.
إن العمل على نسيان السبب الحقيقي لمشاكلنا، ومحاولة إشغال الناس بما ترتب على هذا السبب من آثار ونتائج، يمثل شكلاً من أشكال العبث السياسي، ونوعاً من العشى الليلي الذي يصيب بعض المرضى، فيجعلهم عاجزين عن رؤية الخطر الحقيقي، ويؤدي بهم إلى الانخراط في معارك جانبية، ومواجهات عدمية مع أعداء وهميين، بعيداً عن الانخراط في مواجهة العدو المحتل.
(المصدر : الدستور 2014-03-16)