العودة إلى الحاكورة

الحل في العودة إلى الاقتصاديات الصغيرة، وانعاش المشاريع المتناهية في الصغر، وتنمية الانتاج العائلي، والعودة إلى الحاكورة المنزلية، والحدائق المدرسية، لتصبح وحدات انتاج متطورة ودائمة، وذلك من خلال التوجه لدعم أهل الريف والقرى، وتزويدهم بالخبرات التي تؤهلهم لتطوير مهاراتهم في استصلاح قطع الأراضي التي يملكونها سواء قرب منازلهم أو ما حولها، من أجل حصولهم على مصادر دخل اضافية، ومن خلال الاستثمار في طاقات العائلة من ذكور واناث وما لديهم من خبرات متجددة.
في ظل التطورات الكبيرة والتغيرات الهائلة التي اجتاحت مجتمعاتنا المعاصرة، أصبحت الأدوات الصناعية الجديدة من كهربائية والكترونية عبئاً ثقيلاً على العائلة الأردنية، وتشكل منافذ كبيرة لمصاريف جديدة تأكل المداخيل، وأدت إلى هدر الوقت وتعطيل الجهد، وإدامة الجلوس في متابعة الأمور التافهة، فضلاً عما تجلبه من أمراض مزمنة تصيب الظهر والعيون والأعصاب والعضلات، مما يؤكد أن هذه الأدوات لم تولد بشكل تدريجي في بيئاتنا العربية، ولم تكن مناسبة تماماً لتطور الحالة الذهنية والحالة الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك لم يتم استثمارها في الأعم الأغلب في مجالات تحسين الحياة، وتطوير الآداء ورفع منسوب النماء والانتاج.
كانت العائلات الأردنية قبل نصف قرن، تعيش حالة من الاعتماد على الذات، وتمارس التمكين بحده الأدنى الذي يفضل ما نحن فيه من أحوال بعد مرور هذا الوقت الطويل، رغم ارتفاع نسبة التعليم، وارتفاع عدد حملة الشهادات الجامعية في البيت الواحد، حيث كان كل أفراد العائلة يشتركون في حالة انتاجية فريدة على مستوى العائلة، وكان لكل فرد دور يكبر ويصغر بحسب ما لديه من وقت في أعمال الزراعة والفلاحة، وفي تربية الحيوانات ومتابعة شأنها، ذكوراً وإناثاً.
ما زلت أذكر عندما كنا ندرس في مدرسة عجلون الثانوية، وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في محافظة عجلون كلها، فكنا في نهاية كل اسبوع نرجع إلى القرية مع شقيقي الأكبر وأبناء العمومة لننخرط في الأعمال الحقلية بحسب موسمها، ومساعدة الأهل في أعمال زراعة الأشتال وسقايتها، وأعمال اصلاح دواليب المياه، ومن ثم أعمال القطاف والحصاد، ونقل المحاصيل وتسويقها، على مدار العام.
وكان لكل بيت حديقة مجاورة تحوي أشجار التين والرمان والزيتون والليمون ما يكفي لحاجة العائلة، بالإضافة الى الدجاج البلدي البياض، وقطيع من الأغنام السوداء والبيضاء، ومجموعة من البقرات، التي كانت تتكفل بإطعام العائلة وسد حاجتها من البيض واللحم واللبن ومشتقاته، بالإضافة إلى بيع أبنائها التي كانت تكفي لدفع الأقساط الجامعية والمصاريف المدرسية.
كانت أيدي الطلاب على مقاعد الدراسة تمتاز بالخشونة، وفيها آثار التعب والكد، من ندوب وجروح، وبقايا أشواك المرار القاسية، ومع ذلك كان الطلاب أكثر ذكاء وأكثر حصيلة أدبية وأوسع اطلاعاً وأكثر مطالعة، رغم ندرة الكتب وقلة الصحف، وقلة ذات اليد، ونلحظ أن التطور المذهل الذي طال أدوات المعرفة، وسهولة الحصول عليها، وانشاء الأجهزة المحمولة والخلويات الذكية، ووصول شبكة المعلومات الى معظم البيوت، ومع ذلك نرى تراجعاً في الثقافة، وتراجعاً في الحصيلة الأدبية، فضلاً عن تراجع الانتاجية، وقلة الاسهام في تنمية الدخل العائلي، ورغم زيادة وسائل التواصل الاجتماعي وسهولته، لكننا نلحظ انهياراً في الروابط العائلية، وتدهوراً في العلاقات الاجتماعية.
تطور وسائل المعرفة، وسهولة الحصول على المعلومة، وتطور وسائل النقل وسرعة وسائط الاتصال ينبغي أن ترفع مستوى الانتاجية ويجب أن تسهم في زيادة الدخول، وتحسين العلاقات، وتزويد الأفراد بملكات جديدة، وأن تسهم في تنمية مهاراتهم المتعددة وترفع مستوى قدرتهم على الاستثمار في المقدرات والمتاح من أدوات، وزيادة إنتاج الأرض وتحسين نوعيتها وزيادة غلتها، واكتشاف وسائل جديدة تحسن من مستوى الحياة وتزيد من منسوب الرفاه.
( الدستور 14/4/2014 )