محطات تاريخية في العلاقة الإسلامية المسيحية

تميَّزت العلاقة التاريخية بين الإسلام والمسيحية بنمط من التفاهم والتسامح الكبير الممتد عبر الزمن منذ ما قبل البعثة النبوية إلى يومنا هذا، بطريقة نموذجية تصلح أن تكون نموذجاً يحتذى على المستوى الانساني، حيث كانت قائمة على مجموعة ركائز عميقة، وقواعد راسخة ومبادئ سامية، مستمدة من فلسفة الإيمان بخالق الكون ورب العباد، التي تتشكل منها منظومة القيم الانسانية العليا باحترام العقل البشري.
المحطة الأولى في العلاقة كانت مع الراهب بحيرة، الذي كان يقيم على طريق القوافل بين الجنوب والشمال على بوابة صحراء الشام، والذي كان ينتظر موعد ظهور النبي الجديد حيث استطاع استشراف ملامحه في هذا الفتى الذي خرج مرافقاً لعمِّه في تلك الرحلة، حيث أشار على عمِّه بضرورة الحفاظ على الفتى وأن يحذر من اليهود، لأن هذا الفتى ينتظره مستقبل وضيء على غاية من الأهمية والخطورة على مستوى البشرية كلها.
المحطة الثانية كانت بعد عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من رحلة الطائف الصعبة التي لقي فيها الإعراض والأذى ومطاردة الغلمان والسفهاء، ثم أوى إلى بستان على أطراف الطائف يقيم فيه فتى مسيحي اسمه عداس، فعطف عليه ودار بينهما حديث ودي عن الأنبياء السابقين ومنهم يوحنا المعمدان حيث أخبره الرسول الكريم بأن رسالته امتداد لرسالات الأنبياء السابقين وجاء لإكمال البناء القيمي الإنساني.
المحطة الثالثة ظهرت في الموقف السياسي من الحرب الناشئة بين الفرس والروم، حيث وقف المسلمون مع الروم بوصفهم أنهم مؤمنون بالله، ووقف كفار قريش مع الفرس بوصفهم (الوثني) ، فنزلت (سورة الروم) لتعزي المسلمين عندما غُلب الروم (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5).
أما المحطة الرابعة في العلاقة فقد ظهرت في هجرة الحبشة، حيث أمر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه ومنهم ابن عمِّه جعفر بن أبي طالب، بالهجرة إلى الحبشة التي كان يحكمها الملك النصراني العادل (النجاشي)
حيث قال الرسول محمد -صلى الله عليه- وسلم بحقه : « انه ملك عادل لا يظلم عنده أحد)، ونشأ بين مجتمع المسلمين ودولة الحبشة علاقة وطيدة تعد مقدمة لنشوء علم العلاقات الدولية في الاسلام، وكان بينهما تبادل للهدايا، وتعاون ثقافي ممتد وتقول كتب السيرة أن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- أقام عليه صلاة الغائب عندما جاء الخبر بوفاته.
المحطة التاريخية الخامسة كانت عندما استقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران، وأمر بإحسان وفادتهم، وأقاموا صلاتهم في مسجد الرسول بالمدينة، وكتب لهم عهداً وميثاقاً يعد نموذجاً في التسامح والتعاون القائم على الاحترام المتبادل الذي أسس لعلاقة طيبة على مدار التاريخ.
المحطة السادسة التي شكلت مرحلة حاسمة في العلاقة الممتدة كانت بعد استقبال أهل القدس المسيحيين للخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وتمت كتابة «العهدة العمرية» المشهورة، التي تعد إحدى أهم الوثائق التاريخية بين المسلمين والمسيحين، والتي ما زالت تعد مؤشراً على بناء علاقة راسخة تنبذ التعصب، وتنشر التسامح بين المواطنين وتقيم التعاون على بناء المشروع الحضاري العربي الاسلامي الكبير، على امتداد رقعة العالم العربي والاسلامي منذ عصور الفتح إلى يومنا هذا.
المحطة السابعة تجلت في حروب الفرنجة، عندما جاءت الجيوش الأوروبية الغازية إلى القدس والبلاد العربية تحت لافتة الصليب ونصرة المقدسات المسيحية، ولكن المسيحين العرب انخرطوا مع اخوانهم المسلمين في مواجهة الغزو الصليبي، وسجل لهم التاريخ هذا الموقف المشرف حيث أنهم دافعوا عن أرضهم وحضارتهم وثقافتهم العربية الاسلامية بكل وضوح وبموقف حاسم لا يقبل الجدل.
تاريخنا مليء بالمحطات التي تبرز هذا الموقف المشرف على الصعيد الانساني الذي يعطي البشرية دروساً في التعامل الأخوي المتحضر، الذي يتعرض اليوم للنقض والتشويه على أيدي بعض الجهلاء الذين لا يملكون السويّة الفكرية لفهم مقاصد الاسلام ومبادئه، وفلسفته الكونية القادرة على انقاذ البشرية.
( الدستور 2014-05-19 )