«إطلاق النار على فيل» لجورج أورويل: النيّات الطيبة فخّ لا برء منه

تم نشره الجمعة 30 أيّار / مايو 2014 12:32 صباحاً
«إطلاق النار على فيل» لجورج أورويل: النيّات الطيبة فخّ لا برء منه
ابراهيم العريس

«عندما يتحول الرجل الأبيض إلى طاغية، تكون حريته أول ما يفقده». بهذه العبارة تحدث جورج أورويل ذات يوم عن السبب الحاسم الذي دفعه إلى كتابة ذلك النص القاسي والمحير «إطلاق النار على فيل» والذي كان، حين كتبه خريف عام 1936، واحداً من أول نصوصه الكبرى، على رغم أنه كان نصاً قصيراً. وكان كذلك واحداً من أكثر هذه النصوص دلالة. كتبه أورويل في الوقت نفسه، تقريباً الذي كان ينجز روايته الكبرى الأولى «أيام بورمية» تلك الرواية التي استقاها من الحياة التي عاشها في بورما (نيانمار اليوم)، يوم كانت هذه جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. وكان جورج أورويل ضابطاً في الشرطة الملكية البريطانية هناك. وما رواية «أيام بورمية» ونص «إطلاق النار على فيل»، ناهيك عن عدد من نصوص الكاتب المبكرة، سوى انعكاس لمشاهداته في تلك المنطقة من العالم، والمعاناة التي راحت تطاوله هو الذي كان اشتراكي النزعة إنسانياً منذ يفاعته، وكان يكره كل أنواع الإمبريالية والحكم الشمولي إلى درجة أنه، لاحقاً، وبعدما اكتشف شرور الستالينية، وكيف أن هذه تدمّر المثال الأعلى الاشتراكي في موسكو، ولكن أيضاً في إسبانيا حيث ساهم الشيوعيون الرسميون في وأد الثورة اليسارية الديموقراطية هناك، كتب أهم روايتين فاضحتين للشمولية: «1984» و «مزرعة الحيوانات». غير أن أورويل يوم كتب «إطلاق النار على فيل» كانت كراهيته لا تزال محصورة في الإمبراطورية البريطانية التي كان من بين مآخذه عليها، ليس فقط كونها تضطهد الشعوب التي تحتل أراضيها، بل كونها أيضاً تحول البريطانيين أنفسهم خصوصاً إلى طغاة وأشرار، لا سيما حين تطلب منهم أن يخدموها في البلدان المحتلة، ما يضعهم على تماس غير حميد مع السكان الأصليين الذين لا يمكنهم أن يعتبروهم شيئاً آخر، غير جنود في خدمة هذه الإمبريالية.

> إذاً، فإن الصورة التي يرسمها قلم جورج أورويل في «إطلاق النار على فيل» هي صورة مرسومة بقلم الراوي، الذي كان عام 1926، شرطياً في بورما. وأورويل ظل يعمل في سلك الشرطة البريطانية في هذا البلد، من عام 1922 إلى عام 1927. ومن هنا فهو، إذا كان كتب النص عام 1936، فإنه كتبه من ذاكرته، متحدثاً عنه بصفته نصاً يتحدث عما حدث حقاً. ومع هذا، فإن كثراً من الباحثين يرون أن الحادثة مدار التعليق لم تحصل، وإنما ابتدعتها مخيلة أورويل، فقط للتعبير سيكولوجياً، عن عدائه للإمبريالية التي تضعه في أمكنة لا يريدها. فما الذي يرويه لنا هذا الراوي هنا؟

> يروي لنا، بالتحديد، حكاية رجل بوليس يجد نفسه ذات يوم في مواجهة وضعية تتطلب منه أن يطلق النار على فيل جامح تمكن من الفرار، ويدور الآن في الشوارع مهدداً الناس من دون أن يتمكن أي من السكان المحليين من الإمساك به أو إبعاده. والحادثة هي، في نهاية الأمر، تقوم في إطلاق النار بالفعل، حتى مات الفيل. ولكن في النص الذي كتبه أورويل، ليس هذا هو المهم... فهذا أمر يمكن أن يحدث في كل مكان أو زمان، وبالطريقة نفسها. المهم هنا الطريقة التي بها تعامل أورويل/ الراوي مع الحكاية كلها... وكيفية انعكاسها عليه، والتفاصيل المتعلقة بكونه شرطياً أجنبياً تابعاً للدولة الإمبريالية، طُلب إليه أن يقوم بفعل محدد أمام السكان الأصليين، هؤلاء السكان الذين يكرهونه، لأنه إنكليزي، بمقدار ما يخافونه، وبالتالي يتابعونه في مسعاه وقد تحكمت بهم، وبه، مجموعة من المشاعر المختلطة.

> يحدث هذا كله، إذاً، في مدينة مولماين، حيث نُخبَر منذ البداية بأن الضابط الذي يروي الحكاية تتجه عواطفه نحو الشعب البورمي، في نضاله، الصامت حيناً والصاخب حيناً آخر ضد الإنكليز. فهو أي الضابط من النوع الذي لا يستسيغ حكم شعب لشعب آخر. غير أنه في الوقت نفسه، وكما يجدر بكل رسمي إنكليزي أن يكون، لا يمكنه إلا أن ينفذ الأوامر، متبعاً دوره الرسمي كـ «ممثل للسلطة الإمبريالية القمعية». وهو، انطلاقاً من هنا، يجد نفسه على الدوام عرضة لإهانات واعتراضات البورميين، لا سيما الرهبان البوذيين الشبان الذين يعتبرهم «أسوأ الجميع». ويحدث لهذا الضابط ذات يوم أن يتلقى مكالمة تفيده بأن عليه أن يخلص المدينة من الفيل الجامح، فلا يكون منه، وهو المزود بمسدس ونشستر عيار 0.44 والممتطي صهوة حصان قزم، إلا أن يتوجه من فوره إلى بازار المدينة حين شوهد الفيل. وهناك إذ يجد نفسه يدخل واحداً من أفقر أحياء المدينة، تصله تقارير عدة متناقضة عما يحدث، يندفع إلى الاستنتاج من خلالها أن الأمر كله خطأ في خطأ، وبات عليه أن يعود إلى المكان الذي أتى منه. لكنه عند تلك اللحظة بالذات يشاهد امرأة قروية تشتم فتياناً لأنهم راحوا، باستهتار، يتفرجون على جثة رجل هندي كان الفيل نفسه قد سحقه. هكذا، يتيقن ضابط الشرطة أن الفيل موجود وخطر، لذا يطلب أن ترسل إليه في مكانه بندقية أقوى من سلاحه تكون قادرة على قتل الفيل، ثم يتوجه، يتبعه ألوف من الشبان من أهل المنطقة، إلى حقل يقف الفيل في وسطه لا يلوي على شيء. وهنا في الحقيقة يبدأ النص العميق: ذلك أن الراوي كان قد طلب البندقية كي يحمي نفسه بها من هيجان الفيل، لكنه إذ يجده هادئاً، ولا يبدو عليه أنه يشكل أي خطر، يقرر أنه لا يجدر به أن يطلق النار عليه. غير أنه إذ ينظر إلى الجموع المحيطة والشاخصة ببصرها إليه وإلى الفيل، يدرك من فوره أن هذه الجموع تتوقع منه أن يقتل الفيل، فإن لم يفعل، فستكون هيبة الإمبراطورية كلها على المحك. هكذا، يجد صاحبنا نفسه بين فكي كماشة: فهو إما أن يوقف المسألة برمتها وسط احتقار الجموع وشماتتها به، وإما أن يقتل الفيل، فيبدو أكثر جنوناً من هذا الأخير. والحقيقة أن أورويل سيصف هذا المشهد لاحقاً مفسراً: «لقد شعرت في تلك اللحظة بالذات بأنني لم أعد أكثر من دمية يتقاذفها ذوو الوجوه الصفر المحيطون بي»، أي أن كل تصرفات ضابط الشرطة الراوي هنا، لم تعد محكومة بتصرف الفيل الذي ستبدو عليه لا مبالاة مدهشة إزاء ذلك كله، بل صارت محكومة بتصرفات الجموع... تماماً كما يحدث في حلبات مصارعة الثيران حيث يتعين على المصارع وقبل أي شيء آخر، أن يأخذ في اعتباره ما جاء الجمهور المتفرج ليفعله هنا. وعلى هذا النحو، إذاً يعرف الراوي أن مواقفه ومشاعره صارت كلية خارج اللعبة، ليس عليه إلا أن ينفذ من ناحية الأوامر المعطاة له بقتل الفيل، ومن ناحية أخرى توقعات الجمهور. وعلى هذا النحو لا تعود النيات الطيبة ذات بال بين مطرقة السلطة وسندان التابعين.

> في النهاية يطلق الراوي النار على الفيل مرات عدة، ثم يتركه وسط حملقة الجمهور، ليخبر لاحقاً بأن الفيل تعذب نصف ساعة قبل أن يلفظ الروح... ولكن ما العمل؟ هل كان في وسعه شيء آخر؟

على رغم أن هذا النص قصير، وقد لا يكون محمّلاً بأية دلالة لو لم يحمّله الكاتب دلالته المهمة، فإنه اعتبر الممهد الأكثر قوة للمواقف التي ستجعل جورج أورويل (واسمه الأصلي، إريك آرثر بلير) يقف ضد كل أنواع التوتاليريات (الأنظمة الشمولية) والإمبرياليات. ومن المعروف أن أورويل (1903 - 1950) كان خلال النصف الأول من القرن العشرين، واحداً من أكبر الروائيين والصحافيين الإنكليز، إضافة إلى أن نزعته النضالية الاشتراكية قادته إلى المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية، في صفوف الجمهوريين قبل أن تخيب آماله، ويتحول إلى ناقد الممارسات الاشتراكية والستالينية منها بخاصة... وهو ما نقرأه في معظم أعماله التي كتبها ونشرها طوال أربعينات القرن العشرين وصولاً، طبعا، إلى رائعته وأشهر كتبه «1984».

(الحياة 2014-05-30)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات