موسكو وعواصم الشام.. تآلف وتحالف تاريخي

كان تدمير القوات الجوية الإسرائيلية للحوامات "الهيلوكوبترات" الروسية التي أهدتها موسكو للشهيد ياسر عرفات لتسهيل تنقلاته وزياراته الداخلية للضفة والى الاردن ودول العالم، خلال حصاره عسكرياً في "المقاطعة"، تمهيداً لقتله، مُقدّمةً وعلامةً على رغبة تل أبيب وقف المدّ الروسي في الكيان الصهيوني نفسه، وفي فلسطين أيضاً، الدولة الواقعة تحت الاحتلال، وتكريس فلسطين بالتالي للهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية الاسرائيلية.
وفي كل مرة تقوم فيها روسيا قيادةً ومنظمات روسية غير يهودية، بحِراكات في فلسطين، نجد تصاعداً في المعارضة الصهيونية الحكومية والاستيطانية، تُذهبُ النجاحات الروسية بفوّهة بندقية تدمّر وتقتل، وتعمل على إعادة فلسطين الى الحلبة الصهيونية، ومواصلة تشديد الحصار عليها وعلى شعبها المُحاصرِ أصلاً بكل التقييدات الصهيونية.
في التاريخ، كان الوجود الروسي في فلسطين وبلاد الشام، فاعلاً ويومياً ودينياً واقتصادياً وتجارياً، لا غلو فيه، ذلك ان روسيا التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون، غَرفت ثقافتها الدينية من فلسطين وبلاد الشام، وتآخت بالتالي مع شعبنا العربي بمسلميه ومسيحييه، وتصادقت بعُرى عميقة يستحل ان تنفصم عُراها أو تنشطر.
وفي صفحات الزمان، ان روسيا ترتبط بفلسطين بعلاقات خاصة ومتميزة منذ عدة قرون، تفوق العشرة . فبعد اعتناق روسيا رسمياً الدين المسيحي بمذهبه الأرثوذكسي، أُرسلت من عاصمة روسيا القديمة كييف، بعثة دبلوماسية إلى القدس. وبعد مرور قرن على ذلك، زار الأراضي المقدسة كبير الرهبان، دانيال، سوياً مع مجموعة مع الرهبان الروس. ومنذ القِدم أيضاً، لم يكن الروس الأورثوذكس يأتون إلى فلسطين للصلاة والتبرك فحسب، بل وكانوا أيضاً يقدّمون العون للكنائس الأرثوذكسية القديمة. كذلك فعل الرئيس والأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، جوزيف ستالين عندما نسج علاقات جيدة مع كنائس فلسطين وكهنتها، وقدّم إليها المساعدات المالية والمعنوية، وشدد على ضرورة دعم شعب فلسطين مسلميه ومسيحييه بدون تفرقة، وفي كل أوجه الحياة والمجتمع، وهي معلومات لا يَعلم بها غالبية العرب والبشر.
وفي القرن السادس عشر، في عهد القيصرين إيفان الثالث وإيفان الرهيب، "الرابع"، كانت تُرسل إلى القدس من روسيا تبرعات حكومية ضخمة لدعم البطريركيات الأورثوذكسية المُمثّلة هناك. وقد طرحت في روسيا مرات عديدة مسألة إنشاء بعثة روحية كممثلية دائمة للكنيسة الروسية لدى بطريركيات الشرق. وفي عام1847، صادق القيصر نيقولاي الأول على القرار الخاص بإنشاء البعثة. وبعد ذلك صدر مرسوم من المَجمع المقدس "السينودس"، بتأسيس البعثة الروسية الروسية في القدس. وفي شباط عام1848، وصل إلى القدس القوام الأول من البعثة.
وفي ذلك الوقت، كان الأرثوذكس في فلسطين بحاجة إلى الدعم المادي والمعنوي وخاصة العرب منهم، الذين كانوا يشكّلون أغلبية رعية البطريركية، يعانون من تمييز معين من جانب اليونانيين، الذين لا يزالوا الى اليوم يستعمرون المسيحيين الاورثوذكس والكنيسة المحلية. وبمساعدة الأرشمندريت بورفيري اوسبنسكي، رئيس البعثة الروسية، افتتح بطريرك القدس سيريل، مدرسة يونانية عربية ملحَقة بدير الصليب، وعيّن رئيس البعثة الروسية قيّماً على كافة المؤسسات التعليمية التابعة للبطركية، كما تمّ إنشاء مطبعة لإصدار الكتب اللازمة للأرثوذكس العرب . وفي بطرسبورغ تأسست عام1856 شركة الملاحة والتجارة الروسية لتنظيم رحلات الحج من أوديسا إلى يافا. وفي عام1859 تم إنشاء اللجنة الفلسطينية الخاصة برئاسة الأمير الأكبر قسطنطين نيكولايفتش نجل نيقولاي الأول . وفي نيسان من العام نفسه زار الأمير قسطنطين القدس مع عائلته. وكان ذلك أول حج يقوم به أفراد العائلة القيصرية الى الارض المقدسة. وقد تفقّد الأمير الروسي أول مبنى مُقتنى من قبل الروس في القدس، وهو مكان يقع قرب بالقرب من كنيسة القيامة (دار الكسندروف)، وكذلك قطعة كبيرة من الأرض في شمال غرب المدينة القديمة.
في أيار عام1882، جرى افتتاح الجمعية الامبرطورية الفلسطينية الروسية، ولاتزال المنطقة التي افتتحت فيها تُسمّى للآن بالمسكوبية، نسبة الى المسكوب "أهل موسكو". وقد أُضيفت الى تسمية الجمعية كلمة الامبراطورية عام1889. وكان نجلا القيصر الكسندر الثاني وشقيق القيصر الكسندر الثالث الأمير الكبير سيرغي، المؤسسين ورئيسين لهذه الجمعية التاريخية المجيدة. ويُعتبر تأسيس هذه الجمعية محطة هامة في تاريخ العلاقات بين روسيا وفلسطين . فهي لم تقتصر على الاهتمام باحتياجات الحجاج الروس القادمين إلى الأراضي المقدسة، وإنما كانت تبدي المساعدة والدعم بصورة مباشرة إلى أبناء الطوائف الأرثوذكسية في بلاد الشام ومنها الاردن أيضاً، وذلك على مختلف المستويات الدينية والثقافية والتعليمية والاقتصادية، وعكفت الجمعية على أنشاء المدارس والمعاهد والمركز البحثية والتعليمية .
وبحلول عام1914 وصل عدد المدارس ودور المعلمين والمعاهد الدينية الروسية في فلسطين إلى113مدرسة ومركز، وأثارت الاهتمام الكبير مدرسة البنات ببلدة بيت جالا، التي أسسها الأرشمندريت أنتونين كابوستين، والتي وُضعت لاحقاً تحت إشراف الجمعية الامبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية . لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى في صيف عام1914، وانضمام تركيا إلى التحالف المضاد للروسيا وانجلترا وفرنسا، ثم وصول البلاشفة الذين تلوّثوا بالمنظمات الصهيونية التى دخلت في قِوام الحزب على شاكلة "بوند"، وممثلي "بوعالي تسيون"، و"أحباء صهيون"، وخَزر الدولة اليهودية داخل الدولة، واستمسكوا بالحكم بعد انقلاب أكتوبر عام1917، أدى إلى حدوث تغييرات جذرية في أوضاع الجمعية والمدارس التابعة لها، وكذلك في العلاقات التي كانت تربط الروسيا وفلسطين، وسنستكمل حديثنا في مقالة مُقبِلة، الإثنين القادم .
(الديار الأردنية 2014-09-11)