من وحي الهجرة

الهجرة مناسبة عظيمة في تاريخ الأمَّة العربية والإسلامية، وحدث تاريخي كبير يعبر عن تحول جذري وعميق في الحياة البشرية، وانعطافة هائلة في مسيرة أمَّة العرب ابتداءً، التي وضعت لمساتها على التاريخ الإنساني ومسيرة الكون بلا مبالغة، وقد أدرك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب هذه الأهمية الاستثنائية، ما دفعه لجعلها بداية لتأريخ جديد يجعل العرب والمسلمين والشعوب جميعاً تلتفت لهذا الحدث، وتقف على معالمه الحقيقية، ومضامينه العميقة، التي تستحق إعادة التذكيرفي معمعة الأحداث التي يمر بها العالمان العربي والإسلامي، وتمر بها هذه المنطقة الملتهبة من الكرة الأرضية.
فلسفة الهجرة العميقة تكمن في جوهر المعنى الرِّسالي النبيل الذي منح لهذه الأمَّة، بعد أن تم جمع شتاتها، وتوحيد متفرقاتها، ولملمة صفوفها على معانٍ فكرية ومضامين ذهنية في غاية السموّ، حيث بدأ الأمر من مشروع توحيد العرب على حمل الأمانة الثقيلة الذي أنيط بها الجنس البشري عندما خلق الله آدم، المأخوذ من الآية القرآنية الكريمة : «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» ومن الآية المشابهة الأخرى القائلة : « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا « ويتبين من هذه الآيات الربانية أن خلق الإنسان ابتداءً أنيط بمبدأ الخلافة في الأرض، ومهمة حمل الأمانة من بين جميع المخلوقات، التي تتمثل بحفظ الكون وصيانة نواميسه وقوانينه من العبث، وحفظ المخلوقات من الحيوانات والنباتات، وصيانة وجودها من أجل القيام بدورها المرسوم في حفظ الحياة بمعناها الشامل، والمسخرة لخدمة الإنسان الذي جعله الله سيداً وخليفة.
مهمة الإنسان الجوهرية تنبثق من مهمة إعمار الكون وحمل رسالة الخير لكل عوالم الأرض، والرفق بها من خلال فهم سنة التوازن، التي تدور حول معنى الرّحمة التي كتبها الله على نفسه، ووسعت كل الخلائق، وبعث رسله وأنبياءه من عمق فلسفة الرحمة، إذ قال رب العزّة : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ «، ويفسره قول الرسول الكريم : « امرأة دخلت النار في هرّة، حبستها حتى ماتت، فلا أطعمتها ولا سقتها، ولا تركتها تأكل من حشائش الأرض» ، ويفسره قول الرسول الكريم أيضاً (رجل دخل الجنة بكلب، عندما وجده يأكل الثرى من شدة العطش فأسقاه في خفه) فكيف تكون العناية بعد ذلك بالجنس البشري وكيف تكون العناية بالروح الإنسانية.
الهجرة تشكل بداية التطبيق العملي للمعاني المنزلة من السماء، عندما تم جمع شتات العرب على تشكيل نواة الاستقطاب للعناصر الفاعلة التي تشكل كوكبة الهداية للبشرية المعذبة، من أجل تحريرها من رق العبودية، ومن سطوة الخرافة التي تذهب العقل، وتحرير رق الإرادة المكبلة بالجهل، لتنطلق الجموع الإنسانية نحو نشر الخير والطمأنينة وبسط العدل ومقاومة الظلم، ووضع حد لشريعة الغاب، حتى تسير الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلّا الله والذئب على الغنم.
بقية مقال د. رحيّل محمد الغرايبة
المنشور على الصفحة اخيرة الجزء الاول
الهجرة تشكل نقطة الشروع في إرساء منظومة قيم التعاون والتشارك على البر والخير والتقوى، والتعاون على وقف كل أشكال العدوان والتعسف والتسلط على أبشار الناس وعقولهم وإرادتهم وأموالهم، من أجل تحقيق المعنى التكافلي الفعلي بين الأغنياء والفقراء، وبين الأقوياء والضعفاء، لمحاربة الفقر والجهل والتخلف والتخلص من كل أشكال المعاناة، ليعيش الناس جميعاً في نعيم ورفاه وعدل وأمن ورخاء وتسامح وتغافر.
الهجرة تشكل وضع حجر الأساس لكيفية اختيار صاحب السلطة، وكيفية مراقبته وتقويمه، عل أسس العدالة والمساواة بين البشر في أصل الخلقة، والمشاركة في موارد الأرض، والعدالة في توزيع الثروة ومكافأة صاحب الجهد والإبداع، ونشر العلم، وتطوير قدرات الناس على حسن الاستثمار وجمال الحياة.
عندما يقلُّ الاهتمام بحدث الهجرة فهذا مؤشر على الجهل في حقيقة معنى الهجرة وقدسية مضامينها التي أسست لصياغة خير أمَّة أخرجت للناس، وما يحدث اليوم من سلوكات على حملة الدِّين، إنما يؤشر على زوال الخيرية، والعجز عن حمل الأمانة والقعود عن آداء الرسالة، كما أراد خالق الكون والحياة والإنسان.
(الدستور 2014-10-26)