قضاء هذا الزمان

من أعاجيب زماننا غير المسبوقة في مصر أنه حين صدر حكم الإدانة في قضية قذف بين طرفين اثنين، فإن القاضي تطوع في حيثيات الحكم وقدم من جانبه نموذجا لممارسة القذف بحق آخرين لم تكن لهم علاقة بالقضية. على الأقل فذلك ما قرأته في حيثيات الحكم التي نشرت يوم 29/10، وشرح فيها قاضي جنايات القاهرة أسباب إدانة تغريم المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات وآخرين، في قضية القذف التي رفعها ضدهم رئيس نادى القضاة. لم يستوقفني الحكم على غرابته بقدر ما أثار انتباهي شذوذ ما أورده القاضي في الحيثيات. إذ رغم أنني انفصلت عن دراسة القانون منذ أكثر من نصف قرن، إلا أنني مازلت أذكر أننا تعلمنا ونحن طلاب أمرين، أولهما ان القاضي لا يفصل بين غير الخصوم. والثاني أنه لا يحكم بناء على علمه أو رأيه الخاص، وإنما استنادا إلى ما هو ثابت لديه في أوراق القضية من أقوال ودفوع. وقد أدهشني أن حيثيات الحكم أهدرت مثل هذه البديهيات.
ليس لدي كلام في موضوع القضية ولا في حكم القاضي لصالح رئيس نادى القضاة وضد المستشار جنينة. لكن الحيثيات التي أودعها القاضي ونشرت الصحف تفصيلا لها هي التي تستحق مراجعة ومناقشة.
حين قال المستشار هشام جنينة في حوار صحفي أن بعض القضاة الذين أشرفوا على الانتخابات التي جرت قبل الثورة اشتركوا في تزويرها، فإن القاضي اعتبر ذلك قذفا خادشا للشرف والاعتبار، ومن ثم فإنه حكم بتغريمه، وهو ما قد نفهمه، إلا أن صاحبنا ما ان فرغ من الحديث عن القضية المعروضة عليه حتى تركه وتطرق إلى موضوع آخر لا علاقة له بدعوى القذف. فذكر في الحيثيات ما نصه: «اتحدت إرادة قضاة الاستقلال المزعوم على هدم القضاء والقائه في بئر من السياسة ليس له من قرار» وأقحم الإخوان في الموضوع مشيرا إلى أنه «حينما انقض الإخوان على ثورة 25 يناير، كانوا هم ركائز النظام الغاشم ويده التي يبطش بها.. فكان منهم نائب رئيس الجمهورية (المستشار محمود مكي) الذي ناصر الإخوان على قهر إرادة الشعب.. ومنهم الوزير الذي كان يتباهى بأن نسبه إلى الإخوان شرف لا يدعيه (المستشار أحمد مكي الذي كان وزيرا للعدل) وسخر نفسه في خدمة نظامهم الغاشم على حساب العدالة وحقوق الناس. فراح يزعم كذبا على الهواء أن إصابة أحد الشهداء كانت جراء حادث سيارة، وذلك على خلاف الحقيقة، إذ كانت نتيجة للتعذيب.. ومنهم من ترأس الجمعية التأسيسية للدستور(المستشار حسام الغرياني) فخط بيد آثمة وبليل بهيم أسوأ الدساتير.. وكبيرهم الذي كان رئيس للجنة التشريعية بمجلس الشعب المنحل(المستشار محمود الخضيري). وقاسمهم المتهم الأول (المستشار جنينة) الذي قفز في غفلة من الزمن، على رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات ومازال جاثما عليه. حتى منصب النائب العام (المستشار طلعت عبدالله) لم يسلم من سهامهم المسمومة، فنصبوا فيه نائبا خاصا، وكان نصيبه الطرد جزاء وفاقا لما اقترفت يداه.. والصورة الأخيرة لقضاة الاستقلال هي للمستشار زكريا عبدالعزيز (الذي اشترك في المظاهرات وكان يبيت في ميدان التحرير أثناء الثورة واختير عضوا بالمجلس الاستشاري للثورة، وهو ما اعتبره القاضي من جرائمه وأبدى تعجبه واستغرابه من انه لايزال يعتلي منصة القضاء «رغم انه من المفروض أن يكون مصيره مصير النائب المطرود» (!!).
وبعد أن وزع القاضي إهاناته على أساتذته وزملائه المستشارين بما تيسر له من أوصاف خادشة للشرف والاعتبار. ذكر انهم «دأبوا على مهاجمة القضاء والتطاول عليه في كافة القنوات الفضائية والجرائد اليومية، وكان آخر مخططهم الإجرامي تعديل قانون السلطة القضائية والإطاحة بما يزيد على 3 آلاف قاض.. ومن أفكارهم الشيطانية طرح مشروع التعديل على الحوار المجتمعي» ــ انتهى الاقتباس.
تثير هذه الحيثيات العديد من علامات التعجب والاستفهام. التعجب من النهج الذي اتبعه القاضي في عرضها، حين ترك القضية الأصلية واستدعى خصوما لا ذكر لهم في أوراقها ووجه إليهم مطاعن تمثل قذفا علنيا ويدينه بأكثر مما يدين الآخرين. والاستفهام ينصب عما دعا القاضي إلى ذلك وهو يعلم انه يهدر أبسط قيم وقواعد التقاضي.
لقد كنا نتحدث في الماضي عن القضاء «الشامخ»، ولكننا تراجعنا خطوات إلى الوراء وما عدنا نشير إلى شموخه الذي تآكل بمضي الوقت بفعل ممارسات يعرفها الجميع، وصار غاية مرادنا أن نتعامل مع قضاء عادي لا نريد منه أكثر من أن يكون مستقلا ونزيها ــ وللأسف فإن الممارسات التي نشهدها، وما نحن بصدده، نموذج لها، تدفع بنا خطوات أخرى إلى الوراء. وتدعونا إلى تخفيض سقف الأمنيات والتوقعات. ذلك أنها تفضي إلى تآكل المقومات والركائز التي يقوم عليها مرفق القضاء الذي أصبح وجوده في خطر، وغدا مهددا بين أن يكون أو لا يكون، بل انني لا أخفي أن بعض المتشائمين من رجال القضاء المخضرمين ما عادوا يطرحون سؤال المصير بتلك الصيغة، لأنهم اعتبروا اننا تجاوزنا مرحلة السؤال، ووجدوا في سيل الأحكام التي توالت خلال العام الأخير ما يعزز الإجابة السلبية عليه.
السبيل 2014-11-05