القدس: "تهويش" المهزومين..!

علاقة النظام العربي بالقدس، لخصها الشاعر العراقي مظفر النواب بحقيقتها المريرة في مقاطعه الشهيرة: "القدس عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟/ ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها؟ وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفاً/ وصرختم فيها أن تسكتَ صوناً للعرض...إلخ". ولم يتغير وضع القدس عن هذا في أيّ يوم منذ احتُلت. لكنّ "التنافُخ" الذي تحدث عنه الشاعر يتصاعد موسمياً، عندما تعلو صرخات القدس –والأغلب أنّ أحداً لا يرغب سماعها لأنها تذكره بالخطيئة الأولى: السماح بسبي القدس أولاً، ثم إبقاؤها مسبيّة.
قصتنا مع القدس، وفلسطين بالطبع، مثل الذي خطف الزعران ابنته وخاف من بلطجتهم، فظل يقول: "خلوها عندكم، ولكن لا تلمسوها. سوف أفعل كذا وكذا إذا لمستموها"! كيف ذلك؟ هل المسألة وديعة استودعناها شخصاً معروفاً بأمانته فنلومه إذا عبث بها؟ القدس، ببساطة، مدينة محتلة كلها، بشوارعها ومساجدها وناسها جميعاً. وقد يكون شعور الفلسطيني الذي ينتهك الجنود بيته في الليل ويعتقلون ابنه أو ابنته أمام عينيه، أسوأ من شعوره لدى دخول اليهود ساحات الحرم. ثم، كيف لا ينتهكون حرمة المسجد الأقصى أنّى يشاؤون وهم يحتلونه، مثل كل موضع في فلسطين المحتلة؟ إن حقيقة الاحتلال هي التي تتيح لزعيم الكيان أن يكرر مؤخراً ما أعلنه أسلافه عن قناعة وإيمان: أن القدس جزء لا يتجزأ من الدولة اليهودية، وعاصمتها الأبدية غير قابلة للقسمة. ولا عجب. فليرد ذلك عليه أحد –إذا استطاع- بغير الخطابة المحفوظة!
في هذه الأوقات بالتحديد، خربت الأمور تماماً. في السابق، كانت الدول العربية -بصرف النظر عما تضمره أنظمتها- تصنع بعض الصخب في الأمم المتحدة لتخدير مشاعر شعوبها المستفزة. الآن، ذهبت كثير من "الدول العربية" بمعنى الأنظمة التقليدية -أو حتى الكيانات الإقليمية المعروفة. والأخرى تناضل مع فوضاها الخاصة. لذلك، يستطيع المحتلون أن يجترئوا تماماً على إهانة المقدسات ومن يقدسونها معاً –إذا لم يكونوا يجترئون عليهم دائماً في الحقيقة. والأردن، الوحيد الذي يحاول، أسير لعبة عض أصابع شرسة مع الكيان حول مَن هو الطرف الأكثر مصلحة في "السلام". وهناك المسألة المهمة: إن أخبار انتهاكات المسجد الأقصى تغطي على آلاف المساكن الاستيطانية الجديدة التي تقرر إنشاؤها في الأرض الفلسطينية. لكن أحداً من الذين ما يزالون مستيقظين يذكر بالكاد كارثة التوسع الاستيطاني الذي ينسل تحت دخان التحرش بالأقصى.
الخديعة الكبيرة التي يمارسها العرب على أنفسهم، ويصدقونها، هي الفصل التعسفي الخائب بين ما لا ينفصل: المسجد الأقصى؛ القدس المدينة؛ فلسطين المحتلة. "يغضبون" كثيراً إذا دخل مستوطن الحرم، و"يزعلون" أقل من مصادرة أراضي القدس واستيطانها، ولا يكادون يهتمون للمأساة الكبيرة الأساسية: حقيقة أن فلسطين كلها محتلة. قلبٌ غريب للمنطق على رأسه! لأن فلسطين محتلة، فإن القدس محتلة، والمسجد الأقصى يهان وليس العكس. نقطة! فإذا افتقدتَ غرفة لك في منزل أُخِذ منك غصباً، وذبحتك الغيرة عليها، كيف تستعيد غرفتك إذا لم تستعِد منزلك كله. كيف يكون غير ذلك؟!
دخول المسجد الأقصى، أو العبث ببنائه، أو منع الناس من التعبد فيه، ليس أفظع ولا ينفصل عن تهويد القدس الجاري كل يوم دون أن يتباكى أحد. وإذا جاز لي أن أتحدث عن الفلسطينيين والعرب العاديين، فإن المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وكنيسة القيامة والمهد وكل البقاع المقدسة في فلسطين، لا تفترق في التحصيل الأخير عن أي شبر محتل من فلسطين. ومع أن هذه المقدسات رموز لأشياء أعلى من مجرد مبانيها الدنيوية، فإن بيت كل فلسطيني وحقله وعيشه هي أشياء مقدسة بالنسبة له بنفس المقدار. فلماذا كل ذلك عادي، ولا يحتج عليه أحد؟
إذا كنتَ تغار حقاً ولا تريد أن تُمس مسبيتك، فحررها –هل من بديل؟! ثم حاول أن تتعايش مع ذنب تركها طويلاً عند مَن ما له إلٌّ ولا ذمة، وأن تتناسى ما قد يكون حصل. أما غير ذلك فتهويش، ومن نوع تلك الشكوى لغير الله. أما الوحيدون الذين يحمون القدس بأكفهم العارية، فهم الذين فيها فقط؛ والذين يفعلون ما يحاوله السجين حين يحمي رفيق سجنه بالاتقاء عنه بجسده فقط. لعل الله يغير الحال!
الغد 2014-11-09