الانتفاضة الفلسطينية الثالثة

منذ انهيار المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية برعاية وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أضحى انفجار انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية أحد السينياريوهات الواقعية. لكن بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وتعثر المصالحة الفلسطينية، واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الحرم القدسي الشريف، والقمع الإسرائيلي للمصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى، واستمرار الاستيطان الإسرائيلي في القدس؛ باتت الانتفاضة الفلسطينية أكثر احتمالاً.
هناك مجموعة من العوامل المتداخلة التي تشكل الأرضية الخصبة لاندلاع انتفاضة جديدة. وبالرغم من تداخل هذه العوامل مع بعضها بعضاً، إلا أن كل واحد منها له تأثيره الخاص، ومساهمته في تهيئة الظروف لهذه الانتفاضة.
العامل الأول، هو انسداد الأفق في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بكل الصيغ السابقة، بما فيها مجاملة الوزير كيري الأخيرة. واتفاقية أوسلو التي كان يعتقد العديد من القادة الفلسطينيين والعرب بأنها كانت بداية لمشوار الدولة الفلسطينية، أصبحت هي المشوار نفسه، وأصبحت المفاوضات هدفاً للإسرائيليين بدل أن تكون وسيلة لحل النزاع العربي-الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية؛ فغدا التفاوض من أجل المفاوضات فقط. لقد استمرت إسرائيل طوال فترة المفاوضات التي تمخضت عن اتفاقية أوسلو، في تقطيع أوصال الضفة الغربية من خلال تقسيمها إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج"، واستملاك الأراضي، حتى أصبحت مناطق الضفة غير متواصلة ومن دون اتصال مع بعضها بعضا، وازدادت أعداد المستوطنات والمستوطنين أضعاف ما كانت عليه عند بداية "أوسلو". ولم يثنِ الإسرائيليين عن سياسات التهجير وقضم الأراضي والاستيطان أي شيء؛ لا المفاوضات، ولا ضغط الولايات المتحدة، ولا المبادرة العربية، ولا رغبة الفلسطينيين واستمرارهم في التفاوض. وعليه، أصبح جلياً أن إسرائيل لا تؤمن بقيام دولة فلسطينية، وأن المفاوضات كانت وسيلة لإدامة الصراع لا حله.
أما العامل الثاني، فكان العدوان الذي شنته إسرائيل الصيف الماضي على غزة، والتي تحولت منذ انسحاب إسرائيل الأحادي منها، إلى سيطرة "حماس" عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. وبالرغم من الصمود البطولي لأهل غزة في وجه العدوان الإسرائيلي، إلا أن "حماس" لم تستطع أن تحقق مكاسب سياسية نتيجة هذه الحرب، لا بل على العكس. فقد ازدادت عزلتها على الساحة العربية، وتجد نفسها وأهل غزة في سجن كبير سماؤه مفتوحة. ومع الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي والحصار الاقتصادي، وتعثر جهود الإعمار، فإن الظروف المعيشية في غزه غدت لا تطاق، ما يضع عبئاً إضافياً على "حماس" كونها المسؤولة عن إدارة القطاع.
أما العامل الأخير، والمرتبط بما سبقه، فهو فشل جهود المصالحه بين "فتح" و"حماس". وبالرغم من كل الخطابات عن وحدة الصف، وكل اتفاقيات المصالحة التي تم إبرامها بين الطرفين، فإن الأمور تتجه بعكس ذلك؛ أي نحو التصعيد. لقد سيطرت "حماس" على غزة وحدّت من نشاط" فتح"، والسلطة في الضفة حدت من نشاط "حماس". وعليه، ومنذ انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، اتجهت عيون "حماس" إلى الضفة الغربية. وقد جاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليعمق الخلاف بين الطرفين. فكما تعاني "حماس" من أزمة، فكذلك حال السلطة الفلسطينية التي فشلت في مسار عملية السلام التي اتخذتها استراتيجية خلال العشرين عاماً الماضية، وما تمخض عن ذلك من تنسسيق أمني رفيع المستوى في الضفة مع إسرائيل، تمّ من خلاله التضييق على "حماس" وأنشطتها وناشطيها.
وإذا كانت انتفاضة جديدة هي خيار "حماس" السياسي، فلا بد أن تكون الضفة والقدس هي المكان، لأنه لا يمكن للانتفاضة أن تكون في غزة. لقد جاءت سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأماكن الدينية في القدس، وأساليب التكبيل المختلفة التي تستخدمها ضد المقدسيين والمصلين في "الأقصى"، بمثابة المقدمة الفعلية للانتفاضة. ونشاط "حماس" بالعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي واضح، وجلي، وقوي.
إن النظام الذي أتى به مسار أوسلو قد انتهى مفعوله. وكل الأطراف الفلسطينية، سواء كانت مع أوسلو أو ضدها، وصلت الى طريق مسدودة، وبشكل خاص السلطة و"حماس"، بالرغم من الاختلاف في استراتيجية كل منهما. إضافة الى ذلك، فقد يكون هناك في السيكولوجيا الفلسطينية شعور بأنه على المدى البعيد، لا بد من هزة للوضع الحالي لتحريك المياه الراكدة في العملية السلمية.
الانتفاضة الثالثة تنضج على نار هادئة، لكنها ستكون مختلفة عما سبقتها، وقد تطيح بالنظام الذي جاءت به "أوسلو"، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل.
الغد 2014-11-13