ميتشل هل يرفع الراية البيضاء؟
كان الله في عون هذا الرجل ، الذي كُلـّف بمهمة ، يعرف من كلـّفه بها ، انها مستحيلة ، فما عليه الا ان يدور ويدور ، في حلقة مفرغة ، ثم يعود الى نقطة البداية من جديد ، والغريب في الامر ، تلك الابتسامة التي لازمت وجهه في كل لقاءاته وتجواله.
جاء السيد جورج ميتشل ، والتقي بنتنياهو ، الذي يصرّ على هز ذراعه عدة مرات ، حتى لتكاد تقول في نفسك ، كان الله بعونك يا جورج ، لقد خلعوا يدك من معصمها ، وما ان تصوّرهم الكاميرات ، حتى يدلفون الى غرفة مغلقة ، هناك من يتولى الحديث ، وهناك من يستمع ، ومن يملي ومن ومن؟ .
ثم يخرج ، لا يعرف لًمَ دخل ، ولا ماذا سمع ، وماذا قيل له ، ترى هل احتسى كأسا من الشاي ؟او فنجانا من القهوة ، ام ان الرجل صار معزبا ، وبالتالي انتهت الضيافة؟ بالمناسبة المسؤولون الاسرائيليون ، لا يحسبون حسابا للرجل ، ولا لمن يرسله ، وبالتالي لا بأس من ان يخصصوا له في كل اسبوع ، ربع ساعة ، يستمتع فيها بالحديث معهم.
ترى هل تحدث هذه المرة عن الطقس؟ وهذا الصقيع الذي نخرعظام سكان المنطقة العربية ، وجمّد الدماء في عروقهم ؟ ام هل قيل له لن نملّ نحن حتى تملّ انت ، فيرد عليهم ، يا ليت الامر بيدي ، انه اوباما .
جورج ميشيل ساعي البريد ، وحامل الرسائل الشفهية ، التي لا نرى من بقاياها الا الابتسامات ، واستغرب لماذا ، ولمن؟ ونتيجة أي انجاز تراه يبتسم؟ ثم يخرج من عندهم ، وهو يعرف انه لا يحمل في جيبه ، الا منديلا يمسح به انفه ، من شدة البرد.
وما هي الا ساعات ، حتى يصل الى (شق) السيد عباس ، في مقاطعته العتيدة في رام الله ، وحوله رجال امنه ، بزيهم الرسمي ، ومسدساتهم تظهر اطرافها ، وهم يهمّون بفتح باب سيارته ، ويطلب من عريقات ، ان ينظر الى الكاميرات ويبتسم ، وكأني به يقول (كليكيت مش اخر مرّة ) محاكاة لمخرجي الافلام.
بالمناسبة ، عريقات ايضا يتقن التلويح للكاميرا ، في كل مرة ، ويرافق الصديق ميتشيل ، الى مضافة العم عباس ، ويتكرر السلام ، والايماءات ، التي لا تنبئ عن شيء ، بل مزيد من التلكؤ والغثيان ، وكأننا نشاهد حلقة من (بيتون بليس).
لحظات ، ويخرج المسكين ، ويركب سيارته مودعا بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم ، ( اليست هذه ديباجة اخبار العرب في كل محطاتهم؟) ويصرّ صاحبنا عريقات ، ان يقترب من الصحافة ، ليرتـّل علينا كلمات ، لا توصل الى شيء ، بل تفسير الماء بالماء.
اوباما بالمناسبة ، لا تعيره اسرائيل بالا ، ولا تحسب له أي حساب ، وتذكروا معي تلك الخطب الرنانة في القاهرة ، وعلى مسرح جامعتها العتيدة ، واصراره على حل الدولتين ، وانتقاله الى انقرة ، وتصميمه على الحل العادل والسريع ، للقضية الفلسطينية.
لكنه وبعد عودته الى واشنطن ، يعرّج على مبنى (الايباك) ليقول لاعضائه ، فعلت هذا من اجل مصلحة اسرائيل ، ورب اسرائيل ، الم يقلها بوش الاب ، عندما غزا العراق ، بانه يحارب من اجل الرب؟ ام ان ذاكرتنا العربية ، لا تحفظ الا مكونات صحن الحمص؟.
امريكا الجديدة ، بعهدها ورئيسها الجديد ، تعيش مرحلة انتظار حتى الصيف ، وهي انما تناور في اليمن ، وعينها على ايران ، واسرائيل تتململ وعينها على عباءة نصر الله في الضاحية الجنوبية .
وبنفس الوقت ، فالاستيطان مستمر ، وعملية البناء على قدم وساق ، وهناك تخطيط لنتنياهو ، لاستقدام حوالي مليون يهودي من العالم ، والاتيان بهم الى فلسطين ، وقد اعلنها على الملأ ، وشرح خطته كاملة لميتشيل.
اذن هذه الرحلات المكوكية العقيمة ، التي لا تحمل الا معنى واحدا ، هو عجز الادارة الامريكية منذ عقود ، عن الوصول الى حل عادل للقضية ، يعيد الحقوق لاصحابها ، ويجبر اسرائيل على الالتزام بالقرارات الاممية الكثيرة ، الصادرة بحقها ، والتي تغص بها ادراج مجلس الامن الدولي ، والامم المتحدة.
اما نحن العرب جميعا ، فمبادراتنا لا تعني اسرائيل في شيء على الاطلاق ، فهي تعرف ان التزامنا بالسلام ، لاننا لا نملك خيارا او بديلا ، بينما هي تملك الارض ، والقوة ، ولا يهمها ان حظيت بالسلام منا ام لا ، فلديها جيش قوي ، وتعرف ان العربان ليسوا اهل حرب.
اما تلك العجوز الغبراء ، التي شاخت وشبعت هرما ، واعني بها جامعة الدول العربية ، فلم يبق منها فوق ذلك المبنى الايل للسقوط ، سوى قطعة قماش ، تحمل الوانا باهته ، تدل على بقايا لهيكل عظمي.
المنطقة العربية ، مقبلة على مزيد من الضياع ، والتشرذم والتفكك ، والمشاكل الداخلية ، لكل دولة عربية ، تلهيها شيئا فشيئا ، عن القضية الاساس ، بل وتعطل التنمية فيها ، ولم نستطع ان ننجز ، سوى ناطحات غبار ، ننصبها ، حتى اذا سقطت على الارض ، كسرت اعناق من بنوها.
والافة الاهم هي الفساد ، الذي ينخر في حكوماتنا العربية ، فحدث ولا حرج ، فهو الخبز اليومي للناس ، في حياتهم اليومية ، فالقليل القليل من قضاياه تنشر في الصفحات الاولى للجرايد ، بينما يخرج الفاسدون الكبار ، من الابواب الخلفية للمحاكم ، بل ويأخذون قسطا من الرفاهية ، يستمتعون بما جمعوا من مال حرام على ضفاف الشواطئ وفي افخم الفنادق.
وللاسف الشديد فالاكثرية من الشعوب العربية ، ترزح وتلهث خلف الفتات ، لتطعم ابناءها بقايا خبز قديم ، او ربما ما يبقى من موائد الاغنياء ، فلم تعد هناك طبقات وسطى ، بل ان الحاصل هو اغلبية عظمى جائعة ، وملايين من البشر ، ستكون يوما من الايام ، قنابل موقوتة في احضان الحكومات.
كلما أرى السيد ميتشل ، يسلـّم ويودّع ، ويجتمع ويغادر ، ثم يعود مرة اخرى ، اتذكر تلك الاغنية القديمة (بابوري رايح رايح بابوري جاي) لكن الفارق الوحيد هنا ان البابور في الاغنية ، محمّل سكر وشاي ، بينما ميتشيل المسكين ، جيوبه فارغة ، وحتى اوراقه بيضاء ، بل انه لا يحمل اوراقا ، ولا اقلاما ، ولا اعتقد انها تلزمه في شيء.
HOYANM@YAHOO.COM