انما صراع على النفوذ
املك الآن القناعة بضرورة مراجعة المواقف والاصطلاحات على الصعيد الوطني. وفي مقدمتها الاعتقاد الخاطئ بوجود تيارين في البلد, احدهما محافظ والآخر ليبرالي جديد. وهي تقسيمات راجت قبل اكثر من عام عندما ظهرت توترات وصراعات بين اشخاص ومواقع يمثلون ما يسمى بالليبراليين الجدد والمحافظين.
لقد بلغت هذه التوترات ذروتها في صيف عام ,2008 عندما استقطبت مناصرين الى ما يسمى بالليبراليين الجدد الذين يدافعون عن سياسات الخصخصة والاستثمار بلا قيد ولا شرط وان اقتحمت رموز الدولة وتخطت مشاعر الشعب, هذا من جهة, ومن جهة اخرى بما يسمى تيار المحافظين, او المحافظين الليبراليين الذين ناهضوا هذه السياسات واعتبروها نهجا لتفكيك الدولة والمجتمع واضعاف لقرار السلطة التنفيذية, الحكومة, وبما يهدد تركيبة النظام وهوية الدولة.
لقد مرّ من التطورات والتغييرات والتقلبات حتى العامين الماضيين, في مراكز الدولة المختلفة خاصة الحكومات والمواقع الوزارية, وحل مجلس النواب وغير ذلك من وقائع تكفي لجعل المراجعة ضرورية, حول صِدْقية الصيغة المطروحة والشائعة عن وجود تيارين يتنافسان, هما المحافظون, والليبراليون الجد.
وفي رأيي انه حان الوقت لتجاوز هذه الصيغة على المستوى الوطني. بعد ان ثبت بالملاحظة والتجربة ان لا فرق بين الليبراليين الجدد وبين المحافظين الا في مسألة الادعاء بالانتماء الى هذا الاصطلاح او ذاك. والواقع ان كل ما شهدته البلاد خلال العامين الاخيرين, هو نزاع وصراع على النفوذ والمقاعد الحكومية والمصالح الذاتية, وكأننا امام حالة من تنامي ظاهرة جماعات الضغط التي تلقي بثقلها على صُنّاع القرار من اجل إقصاء طرف واحلال طرف آخر مكانه.
لا نجد اي تباين او اختلافات ذات قيمة بين مدّعي الانتماء الى التيارين, فما يسمى ادعاء بالمحافظين هم في الواقع الاكثر استفادة من مرحلة الخصخصة والاستثمار الاجنبي. كما انهم اكثر مهارة وقدرة على صيد الوظائف والمناصب والمنافع لهم وابنائهم واصدقائهم.
بالمقابل, فان من يُسمَّوْن ادعاء بالليبراليين الجدد هم أبعد ما يكونون عن قيم الليبرالية, في السياسة والاجتماع والتعليم ... الخ. فهم اكثر عداء للحريات والانتخابات الحرة, وفي ممارساتهم العادية يحاولون بطريقة فاسدة بناء قاعدة اجتماعية, على أسس عشائرية وحتى طائفية, تدين بالولاء لاشخاصهم ونهجهم.
غير ان ما يلتقي عليه, التياران المزعومان, يكشف الى اي حد مرّت الخدعة على البلاد والعباد. انهما يلتقيان على العداء للاصلاح السياسي الحقيقي ولكل ما من شأنه ان يغير الدماء في النخب السياسية والاجتماعية المطلوبة للحكومات ومجلس النواب. كما انهما يلتقيان على نموذج واحد من شعارات التضليل مثل الزعم بانهم وحدهم (حريصون على المصالح الوطنية) والاجدر او الاقدر على تمثيلها وليس احد آخر من الشعب الاردني وفئاته ونخبه المتعلمة.
لقد تآكلت طبقة المحافظين, او ابناء بيروقراطية الدولة, وذلك خلال العقود الثلاثة الاخيرة. ولم يبق منها, سوى عدد محدود يتداور على المناصب والتصدر للعمل العام. انهم يتبادلون الكراسي لا غير. اما مُدّعو الليبرالية الجديدة فيدورون حول أنفسهم وكأنهم حزب خاص, لكن بحمولة (بيك اب).
لم يظهر تيار ليبرالي حقيقي حتى اليوم, اما اعادة بناء تيار محافظ فلا تشير الوقائع واساليب العمل في الدولة على امكانية وجود مثل هذا التيار في المستقبل القريب. فالإقصاء والتهميش هما اساس اللعبة, والنتيجة فقر سياسي عام بدليل ان النخب من التيارين تتقلص وتنحصر في مجموعات تنتقل من منصب عام الى آخر فيما الابواب مقفلة امام اجيال عريضة باتت على الرف بسبب تعثر الاصلاح السياسي وغياب التعددية والمشاركة.
واخيرا, لو كنا اما تيارين قائمين بالفعل, لكن بمواصفات ومعايير الانتماء لليبرالية, او المحافظة, فان الواقع السياسي يكون في بلدنا قريبا مما في بريطانيا او ماليزيا, لكن الحقيقة اننا امام فراغ سياسي على مستوى العمل العام يزداد اتساعا مع مرور الأيام.0