مدن غافية في الكتب

دائما، حين أقرأ إسم مدينة في كتاب، تمسسني رغبة شديدة لزيارتها. بقيت هذه الرغبة تتملكني حتى تسنى لي أن أزور مدنا، كنت أظنني لن أزورها حتى في الحلم.
وفي كل مرة أزور فيها مدينة قرأت عنها، أرتبك أمام الصورة التي انطبعت في ذهني لها، وما هي عليه الآن، وأنا اتجول في شوراعها.
الكتب، ترمي لنا الطعم، لنمتلئ بذلك الشغف الجنوني لاكتشاف المدن، تسردها كما لو أنها تتحدث عن نساء خارجات من أحلام بعيدة، حين نقترب منهن، نشعر بأنهن عاديات، ويشبهن الكثير ممن نعرفهن. حين كتب الإيطالي إيتالو كالفينو عن مدنه الخيالية، كان ساحرا، أراد أن يتخلص من وهم الصورة التي صنعتها الكتب في رأسه لمدن هو تخيلها أيضا في كتاب.
جعلها غير تلك المدن التي يمكننا الحلم بها؛ مدن ما بعد الحلم.
حكا عن أمكنة، رأيتها في كتب شعبية خيالية.
كنت أصنع مع كالفينو مدنه العجيبة.
هي ليست عجيبة بمنظوره، فقد أراد أن يتخلص من الوهم الذي صنعه مؤلفون سابقون، وربما لاحقون، بالكتابة عن مدن، تشبه ما يحلم به هو، أو ما يريد أن يحلم به. حين زرت اسطنبول، لم أجد ما رسمه عنها مؤرخو فتح القسطنطينية. رأيت مدينة أقرب إلى الحقيقة منها إلى خيال مؤرخ أو كاتب، يريد أن يدفع كلماته للسطو على المدينة التي تأبت على جيوش يناصرها، قبل أن تسطو عليها الأسنة والرماح.
ولما رأيت دمشق، أصبت بالحزن. فكل ما قرأته عنها، لم يكن حقيقيا حينها. كانت ناشفة، مسكونة بالرعب، خائفة من كل شيء، متهرأة. حتى المباني الحديثة فيها، كانت تتآكل. لم أر وجهها الذي تفوح منه روائح الأزهار. هربت إلى اللاذقية، لأرى ما يمكنني أن أحلم به هناك، أن أرى سطرا مما قرأته في كتاب عنها، لكني أيضا أصبت بدوار رائحة البحر الرديئة، وعدت أدراجي أبحث عن مدن تشبه ما كتب عنها. في زيارتي لشيراز، وقعت من هول المفاجأة على نفسي. ليست هذه مدينة سعدي وحافظ الشيرازيين. إنها مجردة من الخضرة، بعيدة عن الأسطورة، لم ترسمها الكلمات، مشدوهة بالقيظ، ورائحة اليباس الغريبة. ثمة يباس في كل مكان فيها. سرت في شوراعها أبحث عن سطر قرأته عنها، بيت شعر، حلم، لم أجد سوى أسواق بائسة ووجوه قاتمة لأناس يلهثون وراء حزنهم.
في عشق أباد، قلت لمضيفي أريد أن أزور مرو. تبعد عشرات الكيلو مترات عن هذه المدينة الملوثة بالمباني الحديثة.
مدينة بنتها قصص العشق الحزينة والدامية. لم يمنحوني إذنا، ما تزال عقولهم محجور عليها في علب "الكي جي بي"، فسكتت، ولم أكررها، وبقيت مثقلا لأسبوع لعدم زيارتي مرو، والسير في طرقات سار عليها المأمون والمعتصم ذات نهار.
ومثل عشق أباد، حرمت من زيارة مشهد، كنت ذاهبا لرؤية عمر الخيام. حاملا رباعياته تحت إبطي.
كان الرجل ينتظرني هناك، ويريد دعوتي لمراقبة النجوم من مرصده، لكن "سافاك الملالي"، منع هذه الزيارة لقبر شاعر ماجن.
المدن، مرة قلت عنها، غوايات، وبرغم ما قد يفترعها من بؤس، يبعدها عن ضوء الكلمات التي نكتبها، إلا أنها تحتفظ بروح زاخرة بالبهارات وهي تمشي بنا إلى أوجاعها وعشاقها، وحزنها وتبدلها. لن تكون كما كتبناها، ولكنها ستكون كما تريد أن تكتب نفسها
الغد 2014-11-23