"اليهودية" ومأزق الصهيونية
فجّر مشروع قانون ما يسمى "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي في العالم"، سلسلة من الصراعات؛ منها "الهامدة"، ومنها المتفجرة من حين لآخر، داخل المجتمع اليهودي. وكشفت عمق أزمة الصهيونية في مشروعها لاختلاق شعب، يختلف على المبدأ الأساس "من هو يهودي"؛ في حين أن الحلبة السياسية الصهيونية والدينية، مجمعة على وجود ما يسمى "شعب يهودي في العالم"، وأن إسرائيل "دولته". ومن هناك، يكون واضحا أن الحلبة الإسرائيلية متحدة في المعنى الجوهري للقانون؛ فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، ومن ضمنه فلسطينيو 48.
وتبدو الخلافات بين أطراف الائتلاف فيما يتعلق بفلسطينيي 48، بشأن تفاصيل لن تغير من الجوهر في شيء. فحين يقرر العلمانيون إبراز مكانة "ديمقراطية النظام"، أو "مبدأ المساواة"، فإنهم لا يقصدون فلسطينيي 48 فقط، بل أساسا مختلف شرائح مجتمعهم، الذي تنخر فيه أشكال مختلفة من التمييز. ورغم أن الضحية الأساس لسياسة التمييز هم الفلسطينيون، فإنه في هذه النقطة بالذات، ترفض الغالبية الساحقة من الحلبة السياسية الإسرائيلية، باستثناء هوامش في اليسار الصهيوني، الاعتراف بفلسطينيي 48 بمثابة "أقلية قومية"، ونضيف من عندنا، "وفي وطنهم"، وأنهم يستحقون حقوقا قومية جماعية، وليس فقط مدنية فردية.
أما جوانب الخلاف المتعلقة بالصراعات الداخلية بين اليهود الإسرائيليين، كمجتمع، فهي تتركز، أولا، في جانب علاقة الدين بالدولة، وتفضيل الدين والشرائع التوراتية على مبدأ الديمقراطية. وهذا ما يقلق جمهور العلمانيين؛ الجمهور الأساس الذي يشكل عِماد اقتصاد المجتمع وتطوره. ويقلقهم بالذات، التنامي السريع جدا لنسبة المتدينين اليهود في المجتمع، من التيارين "الديني الصهيوني" الذي يسيطر على اليمين المتشدد والمستوطنين، و"المتدينين المتزمتين" (الحريديم) الذين تفوق نسبة تكاثرهم أكثر من ضعف نسبة تكاثر العلمانيين، ويشكلون مصدر قلق مستقبلي للصهيونية.
ويرى العلمانيون أن هذا القانون، الذي سيشكل "أساسا" لقوانين أخرى سابقة أو لاحقة، سيكون مقدمة لطابع المجتمع الإسرائيلي، حين يشكل المتدينون بعد 16 عاما تقريبا، ما يزيد عن 51 % من السكان في إسرائيل، ما يعني نحو 63 % من اليهود الإسرائيليين وحدهم، كما أكد بحث علمي أجرته جامعة حيفا ونشر قبل أربع سنوات. وكما يبدو، فإن توقعات البحث قد تتحقق في فترة أقل، نظرا لنسب التكاثر المتزايدة: 3.1 % بين الحريديم، و2.8 % بين التيار الديني الصهيوني، و1.4 % بين العلمانيين اليهود، ونحو 2.5 % بين فلسطينيي 48.
ولهذا، فإن العلمانيين، الذين يمثلهم في الحكومة الوزيران تسيبي ليفني ويائير لبيد، يرفضون أولوية الشرائع اليهودية "وميراثها" على مبدأ الديمقراطية والمساواة. فهذا سيمنع لاحقا أنماط حياة في المجتمع اليهودي العلماني المفتوح، بكل ألوانه وتنوعاته. وكذلك الأمر بالنسبة للمساواة، التي يريدها المتدينون أيضا بموجب "مبادئ اليهودية"، في الوقت الذي ينظر فيه العلمانيون إلى المجتمعات الأوروبية المنفتحة كنموذج أعلى لهم.
وقد تكون هذه عناوين عريضة لأزمة عميقة، يدركها كثيرون في اليمين التقليدي العقائدي، من مؤسسي حزب "الليكود" وقبله "حيروت". لذا، لا غرابة أن نسمعهم يصرّحون، ويكتبون مقالات، تحذر من مجرد سن قانون "القومية". ويقولون "إن إسرائيل ليست بحاجة إلى قانون كهذا"، لأن أساس مضمونه، "يهودية الدولة"، هو المطبّق على الأرض، ولا أحد يستطيع نقضه، وأن تفاصيله الأخرى تنبش خلافات وصراعات "هامدة" في المجتمع اليهودي، وليس هذا الوقت لإثارتها، إذا كان هناك أصلا وقت لإثارتها، حسب ما يقوله الرئيس الإسرائيلي المتشدد سياسيا رؤوفين رفلين، ووزير الحرب الأسبق البارز موشيه آرنس، وحقوقيون بارزون ممن استعانت بهم الوزيرة ليفني، مثل ياعيل غابيزون التي نصحت ليفني بعدم ضرورة القانون، إلا أن ليفني رفضت النصيحة، وطالبت بأن يكون قانونا يناسب علمانيتها. ونذكر في هذا السياق، مجددا، أن ليفني ذاتها، هي صاحبة فكرة إلزام الفلسطينيين بالاعتراف بـ"يهودية الدولة"، في العام 2007، فأخذها منها اليمين المتشدد وطوّرها.
جاء في مقدمة بحث جامعة حيفا السابق ذكره هنا، أن العلمانيين سيُحاصَرون في "دولة تل أبيب"، بعد أن يصبح المتدينون غالبية. وسيقود التفجر السكاني هناك، الى تحفيز الأجيال الشابة من العلمانيين على سحب جوازات سفرهم الأخرى، غير الإسرائيلية، للهجرة الى تلك الدول. وهذا ما تدركه الصهيونية ويقلقها.
(الغد 2014-11-29)