نظرة على التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي

تم نشره الإثنين 01st كانون الأوّل / ديسمبر 2014 01:53 صباحاً
نظرة على التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي
دكتور محمد نعمان جلال

التطور السياسي في شبه الجزيرة العربية من أكثر المجالات حاجة لمزيد من الدراسة والتأريخ وتأصيل هذا التطور وذلك لعدة أسباب.
أولها: الأهمية الاستراتيجية لشبه الجزيرة العربية تاريخيا ومع هذا افتقدت لكتابة تاريخها بصورة عملية.
ثانيها: إن شبه الجزيرة العربية ظلت طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شبه دائرة في الفلك الغربي من حيث توجهاتها ونظمها ونخبها السياسية الاقتصادية مما أعطى الانطباع باستقرارها إلى حد كبير ولم يكن هذا الانطباع صحيحا على إطلاقه، وان كان صحيحا في مجمله، فالنظام السياسي العربي ظل نظاما قبليا قام على الزعامات القبلية وعلى الدوران في فلك القيادات التقليدية ولم يكن دور الشعوب كبيرا في العمل أو المساهمة في التطور السياسي، وهذا ليس قاصرا على منطقة شبه الجزيرة بل معظم الشرق الأوسط إذ انه امتداد لفكر ثقافي تقليدي منذ ما قبل ظهور الإسلام وحتى الآن.
ثالثها: إن شبه الجزيرة العربية بوجه خاص والمنطقة العربية بوجه عام كانت بؤرة صراع دولي واقليمي عبر التاريخ ما بين الروم والفرس، ثم بين العرب المسلمين وبين هاتين الإمبراطوريتين ثم ما بين الانجليز والفرنسيين منذ عصر النهضة، وبروز أوروبا الحديثة صناعيا وثقافيا وعلميا، وقد ظهرت دول صغيرة حاليا في أوروبا، وسيطرت على بعض مناطق في شبه الجزيرة العربية او شبه جزيرة الهند ارتباطا بحركة الكشوف الجغرافية كما هو شأن التوسع البرتغالي في شبه الجزيرة أو بالأحرى على حدودها البحرية مثل المشيخات في الخليج العربي وخاصة عمان والبحرين.
رابعها: إن شبه الجزيرة العربية منذ الأربعينيات وحتى انتهاء الحرب الباردة كانت محورا لصراع إيديولوجيات ثلاث: الإسلامية التقليدية، اليسار الشيوعي، والتيار القومي العربي. وكل منها لها تفرعاتها ولها ارتباطاتها بالقوى الإقليمية والدولية. ولقد تراجع المد القومي العربي بعد هزيمة 1967، وتراجع المد اليساري الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، ولذلك انهارت التنظيمات التي ارتبطت بهما. وبرز منذ أواخر السبعينيات وفي الثمانينيات وحتى الآن التيار الإسلامي الشيعي والتيار الإسلامي السني، وكل منهما له فروعه ومؤيدوه إقليميا ودوليا، ومن هنا تحول محور العمل السياسي من الفكر "الشيوعي أو القومي" إلى الإسلام السياسي بشقيه، ومن النظم الثورية إلى النظم المحافظة.
ومن هنا تظهر أهمية تدوين التاريخ لمرحلة التطور منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبروز التيارين الشيوعي والقومي في المنطقة العربية، وأثرهما في المنطقة العربية بوجه عام وشبه الجزيرة العربية بوجه خاص. ويلاحظ انه كما يعيش شباب اليوم في دوامة الفكر الإسلامي الأصولي بشقيه السني والشيعي لقد عاش شباب الأمس في دوامة الفكر السياسي "الشيوعي أو القومي"، وقد اخفق تيار شباب الأمس، وأصبح مصير معظمه الدوران في فلك تيار الفكر، الأصولي الإسلامي بشقيه أو تيار الفكر الليبرالي الغربي. ولقد جاء كتاب الباحث المهندس عبد النبي العكري المعنون " التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي الصادر عام 2014 ليؤرخ لتلك المرحلة الانتقالية وشبه المجهولة في تاريخ شبه الجزيرة والخليج العربي. ورغم انه تاريخ جزئي، ولكنه بالغ الأهمية لعدة اعتبارات:
الأول: المؤلف كان جزءا من حركة النضال اليساري في المنطقة التي يؤرخ لها، ومن ثم فان كتابه يستند الى الوثائق كما يستند إلى الخبرة العملية للباحث.
الثاني: إن الكتاب يسد فراغا علميا، فعادة يكتب التاريخ المنتصرون ولكن هذا الكتاب يؤلفه احد الأطراف المنهزمة في حركة الصراع السياسي في المنطقة وهذا لا يقلل من أهمية الكتاب أو مؤلفه بالنسبة للتاريخ والباحثين فيه بل ربما يزيد من هذه الأهمية بمعرفة ماذا كان يدور في المنطقة وكيف اخفق من اخفق ؟ وكيف انتصر من انتصر ؟ وأنا اعرف كباحث إننا لا نحب أبدا الحديث على الإخفاق بل دائما ندعي أننا منتصرون ولكن ينبغي أن نتخلى عن ذلك وكما كتبت ومازلت اردد إن ما سمي بنكسة 1967 كان هزيمة مكتملة الأركان، ولم تُدرس بعمق حتى الآن، ويجب على المثقفين والباحثين ان يعبروا عن الموضوعية وعن النقد الذاتي السليم حتى يمكننا أن نفكر بعقلانية من اجل التقدم.
الثالث: إن الدول الأخرى والكتاب الأجانب كتبوا الكثير عن تاريخنا، ونحن كعرب رسميين ومثقفين قصرنا في أداء هذه المهمة بأسلوب علمي، ومن هنا نظهر أهمية كتاب عبد النبي العكري بالنسبة لتاريخنا حتى ولا نتركه نهبا للأجنبي، ولكن ينبغي الابتعاد عن المبالغة أو التعصب الفكري أو الديني، ونصور أن كل شيء كأنه على ما يرام دائما وأن سبب هزيمتنا هو الأعداء وليس قصور فكرنا وعدم إدراكنا لمراحل التطور وظروف المجتمع الذي نعيش فيه.
وفي هذا المقال لن أتعرض بالتفصيل للكتاب الذي يقع في 287 صفحة، ولكن نشير لبعض الملاحظات العامة:
الأولى: يعرض المؤلف لظروف نشأة تلك التنظيمات اليسارية الشيوعية في كل دولة من دول الجزيرة والخليج العربي ثم ينقل لتنظيمات اليسار الجديد بصورة أكثر تفعيلا وفي الفصل الرابع يتحدث عن تحولات اليسار في الخليج ويختتم الباحث بالمراجع والملاحق.
الثانية: إن هذا الكتاب ليس الأول للمهندس عبد النبي العكري فله العديد من الإصدارات حول التطور السياسي في الجزيرة والخليج العربي والبحرين ومن ثم فانه يعد احد المصادر المهمة للمؤرخين والباحثين. عن المنطقة.
الثالثة: إن الكتاب ليس جديدا في بابه فسبق أن صدرت طبعة منه عام 2003 وقدم لها الأستاذ عبد الرحمن النعيمي الذي كان من كبار قيادات تيار اليسار الشيوعي في المنطقة، وله احترام كبير لدى مختلف الاتجاهات اليسارية العربية والعالمية، وهو الأب الروحي لعبد النبي العكري والكثيرين غيره. وقد اتسم بالتواضع خلافا لتيارات اليسار أو اليمين أو الليبرالي المعاصرين الذين أصبح كثير منهم يتسمون بالغطرسة والتعالي والغرور وهو ما لا ينطبق على عبد النبي العكري.
الرابعة: تعرض الباب الأول من الكتاب لظروف النشأة ويتضمن تحليلا شاملا لعوامل تلك النشأة واتسم بالموضوعية العلمية إلى حد كبير، أما الباب الثاني والباب الثالث فهو سرد للتنظيمات وتطورها وتحالفاتها ومواقفها من مجلس التعاون الخليجي، ومن الوحدة العربية، ومن الثورة الإسلامية الإيرانية، ومن بروز النفط كقوة اقتصادية، أحدثت تغييرات جمة في المنطقة نتيجة الاستفادة به في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة، وكنت أتمنى ان يكون هناك تحليل مقارن لكل هذه القضايا بين الأوضاع في منطقة الخليج وشبه الجزيرة مع باقي دول الشرق الأوسط العربية والإسلامية ليمكن التعرف على دور القيادات والنخب والفكر في هذه الدول المختلفة وما حققته من انجازات أو ما عجزت عن تحقيقه حتى يكون تحليلا تاريخيا بمنهج الفكر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ومن ثم تزداد قيمة هذا الكتاب، ومكانة المؤلف.
الخامسة: تتعلق بالمنهج العلمي التحليلي المفتقد، فالكتاب سرد لأمور كان الباحث جزءا منها، ولذلك توارى الجانب التحليلي.
السادسة: لم يستطع الباحث أن يميز، بين موقفه السياسي وموقفه العلمي، أثناء سرده للأحداث مثلا عند الحديث عن البحرين كان صعبا على المؤلف الخروج من موقفه السياسي، بخلاف حديثه عن التطور في قطر. فهو يحافظ على أسلوب السرد دون عبارات تقويمية "انظر مثالا لذلك في ص -ص 244-246 ) فمثلا يقول استفاد التيار الديمقراطي في البحرين من تجربة قطر ص 245 وهذا ليس كافيا وكان على المؤلف أن يفصل كيفية الاستفادة لان هذا موضع تساؤل منطقي. والمعروف بوجه عام أن البحرين كانت اسبق دول الخليج "بعد الكويت" تطورا ثقافيا وفكريا واقتصاديا، فكيف تمت الاستفادة من قطر آنذاك.
السابعة: افتقد الكتاب برغم ضخامته لأمرين أولهما النقد الذاتي للتيار اليساري من حيث الانجازات والإخفاقات وثانيهما الرؤية المستقبلية لليسار في المنطقة، وما حدث من تحولات لليسار بالاقتراب إلى حد كبير من الأصولية الإسلامية ومن الليبرالية الغربية، ونتساءل ماذا عن الذاتية والهوية والأصالة لليسار العربي ؟ أو عن الليبرالية أو القومية العربية في إطار العولمة أو التغييرات السياسية الدولية والإقليمية. وهل فقد اليسار هويته العربية وذاتيته بل ويساريته كما يبدو ام مازال لديه بعض منها؟
الثامنة: تهنئة للباحث على جهده وعلى إصراره على الكتابة. وملاحظاتي لا تقلل من قيمة الجهد العلمي، ولكنها تسعى لإنارة بعض مجالات تحتاج لتحليل وتدقيق لعل الباحث يعالجها مستقبلا حتى تزداد قيمة البحث وأصالته العلمية.

العرب اليوم 2014-12-01



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات