براءة مبارك وإسدال الستارة
إصدار المحكمة المصرية قرارها بتبرئة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك ونجليه وأركان حكمه من الاتهامات المسندة إليهم؛ بخصوص قتل المتظاهرين وقضايا الفساد، يمثل اسدال الستارة على فصل درامي مثير من فصول المسرحية الطويلة التي أرّخت لاغتيال الحلم العربي الكبير بالحرية والديمقراطية والاصلاح السياسي والرفاه الاقتصادي والتمكين المجتمعي المأمول.
حلم أمة العرب بأن تكون مثل بقية أمم العالم، التي تملك إرادة اختيار حكامها، وفرض رقابتها على أصحاب السلطة، و تملك محاسبة المخطىء وعزل المقصر، وتملك القدرة على فرز الأكفاء والأمناء على المال العام ومقدرات الأجيال، ومن ثم امتلاك القدرة على الإسهام في الإنجاز الحضاري العالمي، هذا الحلم تبخّر وتم اغتياله في وضح النهار، بفضل مجموعة من العوامل والأسباب والظروف التي اجتمعت وشكلت البيئة المناسبة لهذه المسرحية التاريخية الكبرى،حيث ما زالت القبعات مرفوعة تحية لابطالها في معظم المحافل العربية والعالمية.
العامل الأول يتمثل بقوة معسكر الفساد وتجذره في الدولة القطرية العربية، الذي يبسط سيطرته على السياسة والاقتصاد والمؤسسات، وامتلاكه الخبرة الطويلة في التعامل مع الأحداث ومعرفة من أين تؤكل الكتف، وقدرته على صناعة الثورة المضادة، التي تستعمل أساليب الثورات الشعبية نفسها، ووسائلها وتطويع شعاراتها وامتلاك النفس الطويل، والقدرة على الكمون والظهور وتلميع الرموز، والتمكن من اختراق الخصوم، والاحتراف في صناعة العدو المناسب القادر على لعب الدور المطلوب.
العامل الثاني يتمثل بقوة التغلغل الخارجي المؤثر، القائم على دراسة علمية وتحليل نفسي دقيق للشعوب العربية، وتقارير سياسية موثقة، حول الأطراف المؤثرة في المشهد المحلي على جميع الصعد الرسمية والشعبية، ومراكز الثقل، وامتلاك القدرة على التعامل معها بطريقة محكمة تخلو من العشوائية والارتجالية، من خلال السجل التاريخي الطويل في التعامل مع شعوب المنطقة، وامتلاك القدرة على اللعب على التناقضات في تكويناتها الاجتماعية والسياسية المدروسة جيداً، من خلال واجهاتهم ومؤسساتهم العديدة العاملة في عمق الساحات العربية، والمطلعة على قدر كبير من التفصيلات المملة التي يجهلها أهل المنطقة عن أنفسهم وبلادهم وعناصر ضعفهم وقوتهم الحقيقية والمخفيّة.
العامل الثالث يتمثل بالمال العربي على وجه الخصوص، الذي كان له الأثر الأبرز والاكثر فاعلية في تمويل الثورة المضادة، وافراغ الربيع العربي من مضمونه وجوهره الحقيقي، وتبديد طاقته المخزونة في مسارب التيه والعنف والتطرف، من خلال الانفاق السخي على الفاعليات القادرة من تحقيق هذا المنجز،و في اشعال التناقضات البينية، وانشاء التحالفات السياسية المتصارعة على المصالح والمكاسب السلطوية، وخاصة من تلك الفئة المتضررة قطعاً من عمليات التغيير في هرم السلطة ومؤسسات صناعة القرار.
العامل الرابع يأتي من خلال عجز المعارضة، وخلو الساحات العربية من قوى سياسية وحزبية حقيقية فاعلة وقادرة على تلبية طموحات شعوبها وأبنائها، حيث ما زال يطفو على السطح قوى تقليدية تعتمد على الطروحات الأيدولوجية، ووتستند الى الشعبية المبنية على التأييد العاطفي، وما زالت أسيرة لصراعات تاريخية، وثأرات قديمة، مما جعلها عاجزة عن الانتقال إلى مرحلة الطروحات و البرامج العملية، وتفتقر إلى الخبرة الكافية في إدارة الدولة، فضلاً عن العجز الواضح و المتاصل بتشكيل البديل المقنع.
العامل الخامس يتمثل بلون من الإعلام العربي البائس، البعيد عن المهنية ويملك خصومة شديدة مع الموضوعية والدراسة العلمية، مما جعله عاجزاً عن الحيادية المطلوبة إزاء الأطراف المختلفة، وأصبح أداة من أدوات طمس الحقيقة وتشويهها، وأسهم إسهاماً كبيراً في الخديعة الكبرى التي سوغت الانقلاب التاريخي على ثورة الشعوب العربية وانتفاضتها على أنظمة الاستبداد والفساد، وبررت عملية الاغتيال المنظم للحلم العربي الكبير.
ما تم حتى الآن عبارة عن جولة من جولات الشعوب العربية العديدة والمستمرة في مواجهة الظلم والظلام، وفشل هذه الجولة لا يعني انكسار الأمة وضياع مستقبلها، وسوف يكون ما تم عبارة عن حلقة من حلقات النضال بعيد المدى، وسوف تكون الأجيال القادمة قادرة على قراءة الواقع وتحليله، وقادرة على فهم الدرس فهماً جديداً أكثر عمقاً، وأوسع شمولاً وأرحب فكراً ودراية، وأكثر قدرة على تدارك الأخطاء بعد كشفها والاعتراف بها بشجاعة وإرادة لا تنكسر ولا تنهزم.
الدستور 2014-12-01