الأطباء إذ يرحلون مبكرا
"باب النجار مخلع"، لم أرَ تجسيداً لهذا المثل الدّارج، والذي يضرب لصاحب المهنة الذي يهمل نفسه، بينما يرعى شؤون الآخرين كما هو حال الأطباء.
تذكرت هذا المثل وانا اقرأ النتائج التي اوردها احد الباحثين من خلال دراسة له حول متوسط أعمار الأطباء الأردنيين المشتركين في صندوق التكافل، والتي خلص فيها إلى ان المتوسط العام لعمر الاطباء الأردنيين يقل عن العمر المتوقع للأردنيين عند الولادة بنحو اربعة عشر عاما.
هذه الأرقام الصادمة، أيدتها دراسة أخرى اطلعت عليها ونشرت في مجلة أمراض القلب البريطانية، والتي خلصت إلى أن الأطباء من اصول افرو-آسيوية والذين يمارسون المهنة في المملكة المتحدة، وتخرجوا من جامعات في بلادهم الأصلية، يعيشون حوالي عشر سنوات أقل من أقرانهم من اصول أوروبية. هاتان الدراستان على الرغم مما يشوبهما من ضعف من الناحية الإحصائية، الا انهما تصلحان للدلالة على اننا امام مشكلة حقيقية. فالوفاة في عمر مبكر عدا انها خسارة شخصية للطبيب واهله، هي أيضاً خسارة للمجتمع. ففي هذا العمر يكون الطبيب ما يزال في ذروة عطائه، حيث يتمتع بالحكمة الى جانب العلم، ومن هنا اطلق عليه لقب "حكيم". وتتعمق الخسارة بأن يحدث هذا في الوقت الذي يشهد العالم فيه نقصاً حاداً في عدد الأطباء الأكفاء.
فمهنة الطب طالما اشتهرت بتغذيها على صحة، وأعمار وأعصاب من يمارسها من الأطباء. فبيئة العمل متعبة وتتخللها ضغوط كبيرة. وهامش الخطأ قليل، والحياة البشرية على المحك، وساعات العمل طويلة، وسن التقاعد يحدده الأجل أو المرض العضال.
فحياة الطبيب منذ البدايات عبارة عن سباق بلا نهاية واضحة، سواءً مع نفسه او مع الآخرين، فالمنافسة تبدأ من لحظة دخوله كلية الطب ولا تنتهي الا بالتخرج منها، فلا تكاد تنتهي مرحله حتى تبدأ اخرى أصعب منها.
بعض ما سبق ذكره لا يمكن تجنبه بما ان الشخص قد اختار هذه المهنة المتطلبة، لكن فشل معظم الأطباء في ايجاد المعادلة الصحيحة بين الحياة والمهنة يشكل عاملا اساسيا فيما يعتري الأطباء من ملل ووهن واكتئاب. فساعات العمل طويلة، وفي معظم الأوقات غير محددة، والاجازات والعطلات تكاد تكون في حدود التمنّي، والهاتف لا يمل الرنين. كما أن البعض قد لا يذكر اخر مرة شارك فيها في مناسبة عائلية، أو حتى مجرد مشاركة عائلته في جلسة عائلية حول مائدة الطعام. تطحننا الحياة بإيقاعها الصاخب، فلا يلتفت الواحد منا الا وقد فات الأوان، ليكتشف انه لم يكسب دنياه التي أفنى عمره يطاردها، ولربما لم يحظ بالآخرة أيضاً.
لقد أوجد الغرب معادله موزونة بين الحياة والعمل حالت دون طغيان احدهما على الآخر، فعطلهم مقدسة، ولكل هوايته التي يفرغ فيها ضغوطات العمل. وقد عمد الأطباء هناك الى التجمع في مجموعات كبيرة تتعاون فيما بينها لتقاسم العبء، كما أوجدوا سناً للتقاعد، لأن الإنسان بحاجة الى من يقول له "كفى".
الغد 2014-12-03