دولة الوهم!
الوهم آفة تصيب الفكر الإنساني؛ تجعله يعظم صغائر الأمور، ويضيف للحقيقة جزءاً من الخيال، ويجعل المتوهم يظن أن بركة الماء الصغيرة بحراً متلاطم الأمواج، وأغصان الأشجار جيشاً من الثعابين، ويرى الأرض الفارغة مليئة بالبنايات الشاهقة، وهكذا الأمر في كل صغيرة وكبيرة.
آفة الوهم اليوم امتدت لأرض الواقع في شتى ميادين الحياة العراقية، وهو ليس وهماً بالمعنى المجازي؛ بل هو (وهم) بالمعنى الحقيقي، وهذا (الوهم) أكده رئيس حكومة بغداد حيدر العبادي، الذي كشف، قبل أربعة أيام، عن» وجود (50) ألف جندي وهمي في أربع فرق عسكرية»، وبين العبادي أن الحكومة تمكنت «من خلال تدقيق بسيط من اكتشاف ذلك، وإذا أجرينا تفتيشاً على الأرض؛ فسنرى العجائب والغرائب»!
وهذا يعني أن ما خفي كان أعظم، وأن سرطان الفساد منتشر في كل زاوية، وركن من أركان (الدولة العراقية)!
مصطلح (الجنود الفضائيون)، يقصد به: وجود عناصر بشرية وهمية، أو حقيقية، ضمن كشوفات الملاك الوظيفي والرواتب. والحقيقيون -من هؤلاء الجنود- جالسون في بيوتهم، ويحضرون نهاية كل شهر؛ لاستلام رواتبهم، مقابل أن يدفعوا نصفها لآمريهم!
مصطلح (الجنود الفضائيون) لم تكن حكومة العبادي أول من استخدمه؛ وإنما هو مصطلح دارج بين عموم العراقيين؛ وهذا يدلل على أن العراقيين واعون لما يجري في بلادهم من خراب وفساد!
هذه الأرقام الخيالية أكدها –أيضاً- ضابط عراقي كبير، إذ بين أن «أمراء الأفواج يتقاضون راتب نحو (30) إلى (40) جندياً، يفضلون الجلوس في البيت عن أداء واجبهم، وأن هذه الأموال يتقاسمها أمراء الأفواج مع أمراء الألوية، وقياداتهم الأعلى».
هذه النسب البسيطة المكتشفة من الفساد هي التي جعلت العراق اليوم في «المركز (129) في الدول الأنظف في سلم الفساد، بحسب تقرير لمنظمة الشفافية العالمية»، وفي تقرير آخر «احتل المركز الثالث بالدول الأكثر فساداً، بعد الصومال، وميانمار، من بين (180) دولة».
إن توظيف المنصب والسلطة؛ لبلوغ المطامع الشخصية هو واحد من أهم صور الخراب المستشري في بلاد الرافدين اليوم؛ والقضاء عليه يتطلب إعادة النظر في منْ يتسلمون كافة المناصب الإدارية والميدانية في عموم وزارات الدولة المدنية والعسكرية.
حقيقة استغلال المناصب أكدها موسى فرج، رئيس هيئة النزاهة السابق، الذي أوضح: «إن قادة الفساد هم الساسة والحكوميون الكبار، وأن الفساد موجود في مختلف دول العالم، ولكن لم يبلغ ما بلغه في العراق بعد عام 2003، من حيث سعة التفشي وضخامة القضايا وحجم الضرر؛ لأن الفساد في الدول الأخرى مجرد بضعة آلاف من الدولارات، في حين أنه في العراق مئات مليارات الدولارات تسرق، وكلاهما فساد».
الأمريكان الذين جاءوا بدعوى «نشر الديمقراطية في العراق»، هم الذين نشروا الخراب والفساد، وهم يعرفون حجم هذه الظاهرة، وقبل أيام نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريراً مطولاً عن فساد المؤسسات العسكرية والأمنية العراقية، أشارت فيه إلى «ضياع الملايين -إن لم يكن المليارات- من الدولارات على تدريب هذه القوات وتجهيزها، سواء من الأموال الأميركية، أم العراقية، وإلى وجود أسماء وهمية لجنود لا يعرفهم أحد، وهناك -أيضاً- جنود يمتنعون عن الالتحاق بقطعاتهم مقابل تقاسم رواتبهم مع قادتهم العسكريين».
هذا الفساد المخيف هو الذي يُفسر دفع ملايين الدولارات من قبل هذه الشخصية، أو تلك من أجل الحصول على هذه المناصب.
نيران الفساد في العراق ملتهبة جداً، ولا يمكن إطفاؤها إلا بنشر العدل، وإشاعة روح القانون في عموم الحياة، بعيداً عن المحسوبية، والنفوذ السياسي والمجتمعي.
الخسارة الحقيقية ليست في ضياع أموال العراق فقط، وإنما في المؤامرة، التي نعيشها اليوم ضد العقول، والخبرات، والشرف، والمقدسات، والقيم، والمبادئ، والكرامة الإنسانية، والمثل العليا في غالبية مجالات الحياة!
فهل سنرى -قريباً- استفاقة من أوهام الديمقراطية والحرية؛ ليعرف العالم حقيقة الحال المأساوية في عراق ما بعد عام 2003؟!
(السبيل 2014-12-06)