إسرائيل تهرب من أزمة الى أزمة
شهدت الأيام الأخيرة حالة فريدة من نوعها في الحلبة الإسرائيلية. فقد اتفق المحللون والسياسيون على أنه لا يفهم أحد منهم لماذا جرى التوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة، على خلفية خلافات ليست من المستوى الذي يقود إلى انتخابات كهذه، ستجرى بعد 26 شهرا من الانتخابات السابقة. إلا أن هذه الخلافات لم تكن "سطحية" كما يراها الإسرائيليون، بل هي تعبير "مبكر" عن صراعات المجتمع اليهودي الداخلية العميقة. فكيف يمكن أن يكون هذا "تعبيرا عن هزيمة إسرائيل في غزة"، حسب حركة "حماس"، في الوقت الذي اتحدت فيه الحكومة المنهارة حول العدوان على غزة؟
فقد ظهرت في الأشهر الأخيرة عدة قوانين؛ بمبادرات حكومية، وأخرى بمبادرة نواب اليمين المتطرف، قادت إلى تفجّر جدالات، هي انعكاس لصراعات داخلية متجذّرة في المجتمع الإسرائيلي، لكنها كانت هامدة. وفي مركزها الصراع بين الجمهورين العلماني والديني، وبدء قلق العلمانيين من تراجع نسبتهم لصالح المتدينين الذين سيتحولون إلى أغلبية بين اليهود وحدهم، بعد أقل من عقد من الزمن. وكما أسلفت هنا في الأسبوع الماضي، فإن القانون الأهم، لكن ليس الوحيد، الذي أبرز هذه الصراعات، كان قانون ما يسمى "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي في العالم".
كذلك، من المؤشرات التي نلاحظها منذ الآن، أن هذه الحكومة شكّلت حالة التلاقي والتعاون الأبرز بين حيتان المال الذين يريدون اتباع سياسة اقتصادية شرسة تخلت عنها حتى دول رأسمالية كبرى، وبين اليمين الأشد تطرفا. إلا أن اليمين المتطرف الواقع تحت سيطرة التيار "الديني الصهيوني"، اعتقد أن هذه فرصته لتطبيق أكثر ما يمكن من أجندته، ما سرّع الخطى نحو تفجّر تلك الصراعات الداخلية، وفاقم القلق لدى الجمهور العلماني من المستقبل الذي تتنبأ به أبحاث أكاديمية واستراتيجية، تؤكد أن إسرائيل ستكون بعد سنوات ليست كثيرة، تحت سيطرة شبه كاملة من جمهور المتدينين، من التيارين "الديني الصهيوني" و"المتزمت"، وبما سيزيد من تعقيدات الحياة اليومية للعلمانيين.
لكن إسرائيل التي تهرب، هذه الأيام، من أزمتها إلى انتخابات برلمانية مبكرة، تتنبأ لها استطلاعات الرأي بمزيد من حالة التشرذم، ما سيزيد من تعقيدات تشكيل أي حكومة مقبلة، نظرا لغياب الكتلة البرلمانية الكبيرة، كما كانت الحال حتى العام 1992. إذ تشير كل استطلاعات الرأي إلى أن كتلة واحدة ستقفز عن حاجز 20 مقعدا، هي "الليكود"، من أصل 120 مقعدا، بينما غالبية الكتل سيكون لها أكثر من 10 مقاعد، وبنتائج متقاربة، مع عدد آخر من الكتل بحجم أقل. ما يعني أن أي حكومة مقبلة ستتشكل من ست كتل على الأقل. فحتى إن شهدنا اصطفافات جديدة، وشراكات انتخابية بين أحزاب برلمانية، فإن مثل هذه الشراكات لا تصمد في العمل البرلماني، ويبقى التعامل مع كل حزب فيها على انفراد.
بكلمات أخرى، فإن إسرائيل تهرب من حالة عدم استقرار، الى حالة أكثر تعقيدا. ومنذ الآن، بالإمكان المراهنة على أن الانتخابات الوشيكة ستفرز حكومة ذات عمر قصير. وسيناريو الانتخابات المبكرة التالية، سيبقى ماثلا أمامها منذ أيامها الأولى. وكانت آخر انتخابات برلمانية جرت في موعدها في العام 1988؛ فمن أصل 19 ولاية برلمانية، أنهى خمس منها فقط دورته القانونية من أربع سنوات، وكانت أقصر ولاية برلمانية هي الدورة الخامسة، واستمرت 17 شهرا؛ بين العامين 1959 و1961.
وأمام كل هذا، لا نعرف كيف يمكن أن نستوعب تصريحات الناطق باسم حركة حماس، سامي أبوزهري، التي "أعلن" فيها أن "انهيار الائتلاف الحكومي الإسرائيلي هو دليل إضافي على انتصار المقاومة الفلسطينية"، و"أن نتنياهو ما يزال يدفع ثمن هزيمته في غزة". وقبل هذا، كان الناطق باسم حماس قد "أعلن" لنا أيضا أن انتهاء ولاية رئيس أركان جيش الاحتلال في شباط (فبراير) المقبل، بعد التمديد له بموجب القانون الإسرائيلي، هو أيضا "دليل على انتصار المقاومة وهزيمة إسرائيل في غزة".
إن هذا الخطاب هو لا أقل من تسخيف للخطاب الوطني الفلسطيني؛ هو تسخيف لمفهوم وجوهر مقاومة الاحتلال، وهو تعبير فظ عن فوقية المصلحة الفصائلية على المصلحة الوطنية ومشروع الدولة والحرية. وكل هذا لا يليق بحركة جماهيرية واسعة.
(الغد 2014-12-06)