ردهة السرطان

تم نشره الأربعاء 24 كانون الأوّل / ديسمبر 2014 02:29 صباحاً
ردهة السرطان
د. عاصم منصور

كثيراً ما يستخدم السياسيون مصطلح "السرطان" في أدبياتهم، كلما دعت الحاجة إلى وصف خطر أو جهة أو كيان، وذلك للتدليل على استفحال خطرها وتغلغلها وشراستها، مستغلين ما لهذه الكلمة من وقع على أذن المتلقي.
وقد كان الكاتب والمعارض الروسي ألكسندر سولجينيتسن أول من تنبه إلى تطويع "السرطان" لخدمة السياسة، وذلك في روايته المميزة "ردهة السرطان" (Cancer Ward)، والتي تتناول حقبة الخمسينيات بعيد وفاة ستالين؛ في محاولة جريئة لتشخيص الداء الذي استفحل في الدولة، واستقراء مآلات الأمور في ظل القادة الجدد.
تدور أحداث الرواية في قسم لمرض السرطان في إحدى المستشفيات في آسيا الوسطى، حيث تمثل شخوص الرواية شرائح المجتمع السوفيتي المختلفة؛ من البيروقراطية الحزبية الانتهازية، إلى المنبوذين المنفيين في معسكرات العمل من المعارضين السياسيين، مروراً بالأغلبية الصامتة أو المتآمرة بصمت.
يجمع "السرطان" كل هؤلاء في ردهة بائسة يقوم عليها قلة من الأطباء، يحاولون جاهدين، على بؤس ما بين أيديهم من وسائل، علاج المرضى في مهمة تبدو يائسة.
يصف لنا سولجينيتسن السجال السياسي، والتناقض الطبقي والأيديولوجي بين المرضى، من خلال مناقشاتهم الحادة التي يقطعون فيها نهاراتهم الطويلة؛ إذ لم يستطع المرض الذي يفترض أن يوحدهم في المصيبة، ردم عمق الهوة بينهم، فكانت الشماتة والكرهية والاحتقار تطغى على مشاعرهم.
كما تصف لنا الرواية الضبابية وعدم وضوح الرؤية اللذين غلفا تلك المرحلة؛ إذ لا يعلم المريض شيئا عن مدى استفحال المرض، ولا عن الدواء الذي يتناوله؛ كما لا يعرف الطبيب الجرعة المناسبة، ولا الخطوة التالية. هذا فيما الإشاعات تملأ المكان، وهو أمر طبع تلك الفترة؛ إذ راوح الناس فيها بين الأمل بالتخلص من دكتاتورية الحزب والفرد، وبين استمرار الحقبة الستالينية، بوجوه وأسماء جديدة. لكن الكاتب لم يخف تشاؤمه إزاء إمكانية إحداث اختراق في هذا النظام الحديدي؛ فها هو المسؤول الحزبي يغادر المستشفى وقد ترسخ في اعتقاده أنه شفي من المرض، بينما يعلم كل من حوله أن المرض استفحل فيه ليصل مرحلة استحالة الشفاء، في إشارة رمزية إلى حالة الإنكار التي بلغتها السلطة، إلى أن يقرر الكاتب على لسان أحد أبطال روايته أنه إذا كان الرجل يموت بسبب ورم استوطن جسمه، فما بالك بوطن انتشرت فيه المعتقلات ومعسكرات الشغل كالأورام!
ثم تأتي الإشارة إلى البحث عن العلاج الناجع، والذي يستخلص من أحد الفطريات التي تنمو على أشجار البتولا في غابات روسيا القديمة، في إشارة إلى العودة إلى التقاليد الروسية القديمة.
"ردهة السرطان" رواية عن السياسة والحياه والموت والأمل. لكنها، أيضا، فائقة الدقة فيما يتعلق بالمعلومة الطبية، بحيث يصعب على المختص في هذا المجال، حتى في عصرنا الحالي، إيجاد ثغرة في حبكتها الطبية.
انتقلت بي الأفكار، وأنا أقرأ هذه الرواية، من روسيا وصقيعها، إلى منطقتنا ونيرانها المستعرة، فلم أجد إلا مستشفى كبيرا للسرطان؛ حيث الحكماء غائبون أو مغيبون، والأطباء مزيفون، والدواء مغشوش، والمرضى يتقاتلون فيما بينهم على موطئ كفن في المقبرة المكتظة.

الغد 2014-12-24

 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات