غارقون في مستنقع الخرافة
تم تغييب العقل النقدي مقابل النص النقلي، وهدر الطاقة التحليلية لصالح الطاقة التحريمية، رفعنا كذبا شعار "الاصالة والمعاصرة" فلا اصالة بلورنا ولا معاصرة حققنا، بل تحولنا الى عجينة رخوة وطينة سخمة، فعلت الخرافة فينا فعلها ونفذت عميقا الى مجتمعنا، فعطلت الابداع والابتكار والتفكير الحر والتجديد والتجريب والعلم والعقل والحضور في العصر وفي الحياة.اصبح من الطبيعي ان تنتشر في مجتمعنا اكثر الخرافات سذاجة وهشاشة وسخافة مثل ان جثة الشهيد – على جلاله وبهائه- لا تتحلل على مر العصور، وان دماءه لا تجف ولا تتغير، لا بل ان الدم عند موقع الطعنة او ضربة السيف او منفذ القذيفة يظل على لونه وطراوته، كأنه سال الآن برغم ان العلم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك انه يصعب التعرف على أعضاء الجسم بعد ثلاثة أسابيع فقط، نتيجة تحللها الكامل بفعل البكتيريا.
لم نشاهد حتى اليوم جثة شهيد واحدة ظلت على بهائها وجلالها فلم تتحلل، فما هو في قبور الشهداء الطاهرين، كما هو في قبور الاخرين، تراب وعظام نخرة.
قال معاوية بن ابي سفيان قولته الشهيرة: "لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، فان هم أرخوها شددتها وان هم شدوها أرخيتها"، لا نزال نستشهد بهذه القولة الشهيرة كمثال على الحكمة والحلم والدبلوماسية والدهاء وطاقة الحكم والقيادة الحليمة المرنة.
معلوم للقاصي والداني ان معاوية بن ابي سفيان اغتصب الحكم وانتزع البيعة لابنه يزيد بالسيف – حالة عمرو بن العاص- وبالحيلة وبالمكر وبالالتفاف على النصوص وليس بالكياسة والرضا والسياسة. ومعلوم ان معاوية بن ابي سفيان خاض حروبا طاحنة ابرزها معركة صفين ضد "ولي الامر" الخليفة علي بن ابي طالب كرّم الله وجهه التي ذهب ضحيتها 70 ألفا من المسلمين، وان معاوية استخدم الترغيب والترهيب والسيف والخوف موضع الدبلوماسية والحلم والندى، وانه لم يمد ولم يرخ الشعرة ولم يترك او يعف عقال البعير ولا عن بعرة.
ينتشر "الطب الشعبي" بين ظهرانينا، نحن المجتمع الذي يزيد فيه عدد الأطباء عن عدد الجنود، وعدد المهندسين عن عدد المعلمين، فيجاهد محدثك لاقناعك ان رجلا خارقا في اربد او في العقبة يعالج ويشفي من "جميع الامراض"، وانه لا يستوفي بدل أتعاب اطلاقا، هو يأخذ فقط ثمن الأعشاب التي يستوردها من الهند والباكستان ويكوّن منها خلطته الخاصة التي تشفي من السرطان وامراض القلب والديسك والعقم وما دون ذلك من امراض "هاملة" على حد وصف الطبيب الخارق. تترك الناس الاشعة وتحاليل المختبرات وشهادات الأطباء وتتدفق على "طبيب" هيلمجي بكاش، "يحش" من اعشاب المزبلة القريبة ويخلطها بالهيشي والحشائش البرية ويعلنها الترياق القادم من العراق.
وينشغل"داعية" مودرن الملبس، بتحريم معايدة إخواننا المسيحيين في عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، يحظر علينا مشاركتهم الطعام ومبادرتهم بالسلام، ينشغل عن فظائع واهوال وكوارث ومجازر ترتكب يوميا باسم ديننا العظيم وتلطخ صورته النقية فلا يهتز له شعرة، و"لا يرى في الوجود شيئا جميلا" لا يرى الا ما هو منفر مفتت مغث يصب في طاحونة التطرف والغلو واقصاء الاخر واعلاء شأن الذات المتهتكة المعطوبة بفعل ما يزرع هذا الداعية واشباهه وتوائمه في شبابنا من كراهية وانكفاء ونكوص وذهاب في القدامة والظلام مقابل الضوء والحداثة والحياة.
بغير هذه الخرافات وبغير اولئك الدعاة، نتجاوز المستنقع ونخرج من القمقم ونعبر البرزخ.
العرب اليوم 2014-12-25