أرض الرسالات.. أي رسالة؟!
علمونا في الأبجديات أن بلادنا هي أرض الرسالات والأنبياء. علمونا ذلك كسبب للفخر: إذا كان الآخرون يصنعون للبشرية سبلها المادية، فقد أهدتها بلادنا كثيراً من أشواقها الروحية، وأقامت لها وشيجة بين الأرض والسماء. وتفترض هذه الحقيقة أن تكون هذه المنطقة تجسيداً لهذا المعنى العلوي؛ بتعايش أهلها وتشاركهم تقدير مقدساتها وتأملاتها الفكرية المتنوعة، كجزء من الإرث والهوية التاريخية لكل من فيها. وستعرض المنطقة، بهذه الصفة، فرصة فريدة لاستثمار التلوين الحضاري والروحي في إطار التعاون الطبيعي بين أبناء الأرض الواحدة، والبناء عليها في المشروع التطوري الجمعي -إذا توفرت نيّة الاستفادة من إيجابية الأشياء.
قبل أيام، كنتُ أشاهد تقريراً تلفزيونياً عن مدينة الناصرة الفلسطينية المحتلة. ودخلت الكاميرا في تجوالها كنيسة البشارة العريقة في المدينة. ولو وصفتُ، لن أتمكن من تصوير روعة المكان بالكلمات. استحضرتُ ما تحتفظ به الذاكرة من صور كاتدرائيات العالم الكبيرة التي زينها أعظم الفنانين، لكن إيحاءات كنيسة البشارة لا يماثلها شيء. إنها مكان أصليّ ألهَم كل تلك الأماكن. وهي فوق ذلك، مصنوعة من التفاصيل الحميمية لحياتنا وبيئتنا. ولا يستطيع أي شخص ينتمي إلى هذه الحضارة بكلياتها الإنسانية، إلا أن يشعر بإلفة المكان وبكم يشبهه. وحين ذهب التقرير إلى عرض لقاءات مع سكان المدينة، وتحكي الناصريات عن أغاني التراث باللهجة المحلية، فإنه لا يمكن أن يفكر المرء إلا بأنهن يتحدثن عن قلبه. نقطة.
أتصور أنه لا فرق في خبرة الفلسطيني -الذي ذاق النكبة بكثافتها المرة- بين المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وكنائس المهد والقيامة والبشارة، لأنها قطع الروح الفلسطينية الموزعة والهوية المهددة. ولو لم يكن اليهود قد تلبسوا الدين كعنوان لمشروعهم الإقصائي ضد أهل المكان، لما تغرّب الكنيس اليهودي عن المكان وأهله أيضاً. وفي الوضع الذي ينبغي أن يكون طبيعياً، سيقول أي عربي: عيسى المسيح ابن بلادي، وهنا كان داود ويعقوب، ومن هنا انطلقت رسالة محمد (عليهم السلام جميعاً). كل الرسالات والرسل تنتمي لنا.
مثلما هي فلسطين منكوبة وأهلها مستهدفون، أصبحت كل المنطقة منكوبة وأهلها مستهدفون. وأسوأ عللها التي تقتلها هي وأهلها، استغراقها في اعتبار التنوع تناقضاً، وانقضاضها على مكونات هويتها بحيث يخسر أبناؤها جميعاً، من كل دين وطائفة وعرق. الكل يفتقدون السلام الآن، كل بطريقته. وبشكل غريب، أصبح تنوع رسالات المنطقة وتفسيراتها في العنوان من أسباب صراعاتها مع نفسها، وضد نفسها.
الآن، أصبح تصور تصالح المنطقة مع تنوعها أشبه بالتأملات الطوباوية المستحيلة. لكن، أي بديل يمكن أن يكون واقعياً وعملياً وخادماً للذات في صبغ المنطقة بلون واحد، وعمل كل طرف على "تطهير" حيزه من مواطنيه الآخرين؟ وإلى أين غير الخراب يمكن أن تقود هذه الحروب والقتل والتشريد بدعوى اختلاف الدين أو الطائفة أو العرق؟
من أسوأ ما فعله البشر، كان استعمال الأديان والعقائد كمشروعات سياسية غايتها الهيمنة، وتبرير الانتهازية الدنيوية والاستئثار بالمكاسب وتسويق العدوانية بتفسيرات مقدسة. والأصل أن لا يكون شيء في الأديان غير السلام والخير والمحبة والأخلاق. وحيث استخدمت بخلاف ذلك، فقد خسر الجميع دائماً في دورات الانتقام، فكان المنتصر هنا مهزوماً هناك، وجاني اليوم مجنياً عليه غداً، وظل البسطاء دائماً هم الضحايا. ومن المفارقات أن هذه المنطقة عانت، وتعاني، من استهدافها على هذه الأسس، ثم تقوم هي باستهداف نفسها على نفس الأسس. وفي نهاية المطاف، سوف يتحمل الناس وزر المشاركة حين تخسر الإرادات الفردية انحيازها إلى المنطق والمصلحة، وتقع في فخ الكراهية.
ننظر في المشهد المضطرب حولنا، فنجد الجميع يتساقطون. لا السُّنة ناجون، ولا الشيعة، ولا المسيحيون، ولا الأزيديون، ولا أي صاحب فكرة أو إيمان. وفي الطريق، يعود الصراع بالمنطقة إلى خسران ما أنجزته لنفسها وما وهبته لها الصدف، وسيستيقظ من ينجو على خيار البدء من الصفر. أما الرسالة التي تبثها "أرض الرسالات" الآن، فمقطوعة عن مبدئها وسامة لأهلها ولكل مواطني الكوكب. ولعل هذه الأيام التي تشهد الاحتفالات بأصحاب الرسالات، تبث بعض الإشراق والحياة في الفكرة الأصيلة: نحن من أرض الرسالات، وكل هؤلاء الأنبياء والأديان والمقدسات منا ولنا.
الغد 2014-12-25