ليبرمان وأجنحة النمل الطيّار
يُطلق بعض أنواع النمل، في نهاية الصيف، أجنحة شفافة هشة، هي علامة على مرحلة حياته الأخيرة، إذ يموت بعد وقت قصير جدا. وما "أجنحة السلام" التي أطلقها أفيغدور ليبرمان مؤخرا، سوى تعبير عن رقصة الموت السياسي الأخيرة. وهذا سبق تكشّف فضيحة الفساد الكبرى التي تضرب حزبه "إسرائيل بيتنا"، ومسؤولين كبارا فيه، فلربما يكون قد أطلق هذه "الأجنحة" قبل الكشف عن هذه القضية. لكن الجمهور أبدى في الاستطلاعات توجها للابتعاد عنه، زاد مع تكشف الفضيحة.
فقد ظهر ليبرمان على الساحة السياسية في منتصف التسعينيات، مديرا عاما لحزب "الليكود"، حينما ترأسه بنيامين نتنياهو لأول مرّة. ثم مديرا عاما لديوان رئاسة الوزراء. وكان الرجل الأقوى في المنصبين، حتى أطلق عليه لقب "مدير عام الدولة". ثم استقال وانشق عن حزبه، لينشئ حزب "إسرائيل بيتنا"، مع تركيز خاص على جمهور المهاجرين الجدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق، ومتمسكا بسياسة يمين متشدد. وشيئا فشيئا تصاعدت قوته، وبلغت ذروتها في انتخابات 2009، حينما حصل على 15 مقعدا، خسر 4 منها في انتخابات 2013، ضمن تحالفه الانتخابي مع "الليكود". وعلى الرغم من مرور 16 عاما على تشكيل حزبه، إلا أن هذا الحزب بقي طيلة الوقت تابعا لسلطة ليبرمان المطلقة؛ فهو المقرر في كل شيء. وهذه ظاهرة وحيدة في إسرائيل للأحزاب التي يقيمها شخص واحد.
دأب ليبرمان على تركيز قوته الانتخابية بين جمهور الناخبين من المهاجرين "الجدد"؛ الذين هاجروا منذ سنوات التسعينيات وحتى اليوم، مُلوّحا بمطالبهم المدنية، خاصة تلك التي تتعارض مع نمط حياتهم العلماني. ورغم عضويته في عدة حكومات، إلا أنه لم يحقق لهم شيئا من مطالبهم، بل كان يتواطأ مع الأحزاب الدينية في عدة قضايا. فجمهوره يطالب بالزواج المدني، وتخفيف شروط عملية التهويد، والاعتراف بيهودية مئات الآلاف منهم، وتخفيف قوانين السبت، وغيرها. وفي المقابل، فإن هذا الجمهور بدأ يخرج من دائرة "المهاجرين" سياسيا، إلى اتجاهات مختلفة، بعد أن أيقن كثير منهم أن ليبرمان لا يحقق مصالحهم، في حين أن الخانة السياسية التي يتحرك فيها ليبرمان، خانة اليمين المتشدد والأشد تطرفا، تشهد منافسة شديدة جدا بين تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، و"الليكود". وهذا جمهور يسيطر عليه التيار "الديني الصهيوني" والمحافظون. ونلاحظ من النمط الانتخابي في الجولات الانتخابية الأخيرة، أن هذا الجمهور يتحفظ على ليبرمان بسبب علمانيته المعلنة، إضافة إلى الثقة به كليا بسبب نهجه الشخصي، ومسلسل شبهات الفساد الذي واجهه ليبرمان على مدى سنوات طوال، وإن أفلت منه بقرارات ما تزال تحوم حولها علامات سؤال كثيرة.
في الأسابيع القليلة الأخيرة، أكثر ليبرمان من الحديث عن ضرورة إطلاق إسرائيل مبادرة سياسية لإنهاء الصراع. ورأينا وسائل الإعلام تتمسك بالعنوان الأول، من دون إبراز التفاصيل. لكن ليبرمان لم يغير جلده، ولم ينقلب على برنامجه اليميني المتشدد، لأن في صلب ما يطرحه عدم إخلاء أي مستوطنة من مستوطنات الضفة الغربية، بل وضعها تحت ما يسمى "السيادة الإسرائيلية"، مقابل ضم مناطق مأهولة بفلسطينيي 48 محاذية للضفة إلى الدولة الفلسطينية العتيدة، و"تحفيز" مئات الآلاف من فلسطينيي 48 في مناطق أبعد، على الانتقال إلى هذه "الدولة" المحاصرة؛ ما يعني الطرد الجماعي بصياغات تورية.
وفي الأسبوع المنتهي، بات لأحاديث ليبرمان هدفان: الأول، واضح، وهو محاولة البحث عن جمهور انتخابي جديد بين اليمين، بعد أن شاهد الليكود يتقوقع أكثر في حظيرة اليمين الأكثر تشددا. أما الثاني، كما تجلى مؤخرا، فهو التغطية على قضية الفساد الضخمة والمتشعبة جدا التي تطال حزبه ومسؤولين حكوميين تابعين له، وقد تطاله هو أيضا في مرحلة متأخرة.
لا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه القضية؛ فليبرمان أفلت من أكبر قضية فساد تورط فيها سياسي في إسرائيل. إلا أن استطلاعات اليومين الماضيين، أظهرت أن ليبرمان فقد منذ الآن نصف مقاعده الحالية جراء هذه الفضيحة. ولكن في كل الحالات، فكما هي رقصة موت النمل الأخيرة، هكذا هي أجنحة ليبرمان "السلامية". وكما يبدو، فإن هناك من قرر إنهاء ظاهرة ليبرمان. وربما لا يكون هذا في الانتخابات المقبلة، ولكن في التي تليها، بهدف تجميع أكبر لمعسكر اليمين المتشدد في عدد أحزاب أقل.
(الغد 2014-12-27)