التقاعد المختلف !
في اليوم الاول من العام الجديد سوف أتوقف عن ممارسة الطب طواعيةً واختيارا بعدما استغرقت من رحلة عمري تسعاً وخمسين سنة، لا لكي أخلد للراحة بل لكي اتفرغ لنشاطات اخرى وفي مقدمتها الكتابة وربما العودة قليلا لهواية الرسم !
التوقف عن الممارسة يسمى في بلادنا التقاعد وهو في ظني تعبير بيروقراطي دخل لغتنا في عهود الحكم التركي، ومعناه في عالم الوظيفة أن صاحبها يعرف نهايتها بعد خدمة سنوات معينة او الوصول الى سن محددة ويقبض وهو في بيته راتب التقاعد المعروف مسبقاً. أما في المهن الحرة فسن التقاعد مفتوح يخضع لعوامل اخرى كالقدرة البدنية والعقلية والاستعداد الشخصي والحالة المالية وقد يمتد لعشر أو عشرين سنة زيادة على سن التقاعد الحكومي.. وللتقاعد في مهنة الطب تحديداً انظمة تختلف من بلد لآخر، فاذا اخذنا بريطانيا على سبيل المثال وجدنا الطبيب الجراح ملزما بالتوقف عن اجراء العمليات عند سن السبعين لكنه لا يحرم من مزاولة دور المستشار لزملائه او إعطاء المحاضرات في كليات الطب وبقدر جزئي. أما في الاردن وحسب قوانين نقابة الاطباء فان الطبيب يستحق راتبه التقاعدي في سن الخامسة والستين لكنها لا تلزمه بالتوقف عن ممارسة المهنة.
في هذا المنعطف لا بد من وقفة تأمل لستة عقود من العمل في مهنة جليلة منح فيها مجتمعنا الطيب اصحابها من اجيالنا على الاقل مكانة عالية من الاحترام والتقدير كما زودهم الطب نفسه بعلوم عظيمة مكنتهم ليس من خدمة المرضى وتخفيف اوجاعهم فحسب بل اهلت الكثير منهم لتقييم شؤون الحياة والانخراط فيها بطريقة اشد دقة اكثر واقعية.. لكن عليّ أن أسجل للتاريخ أن النظام الوظيفي الذي فرض على الممارسة الطبية في الاردن قبل خمسين عاماً ومنع اطباء القطاع العام من مزاولة عملهم في القطاع الخاص خارج اوقات الدوام الرسمي كما هو سائد في باقي بلاد العالم أثر كثيرا وبطريقة سلبية على (روح) العمل الطبي حيث يستمر تسرب الكفاءات الى القطاع الخاص فتُحرم الاجيال الجديدة من الاطباء من فرصة التدريب على ايدي المجربين القدامى كما يحرم مرضى وزارة الصحة -وهم الاغلبية الساحقة وجلهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود- من خبراتهم ومهاراتهم..
وبعد.. ترى هل يشكل (التقاعد) نقطة البداية لمرحلة جديدة من مراحل الحياة؟ نعم.. لكنها تختلف باختلاف المتقاعدين، ومن يعش يرَ!
الرأي 2014-12-30