تدمير أميركي لإنجاز بشري
يعرف طلبة علم العلاقات الدولية أنّ هناك نظريتين رئيستين في حقل تخصصهم. الأولى، هي الواقعية. والثانية، الليبرالية. وبينما يوجد موقف سلبي نسبيا من قبل الأولى إزاء المنظمات الدولية، فلا تعتقد أنها جديرة بالثقة أو الاعتماد على أنها ستحقق الحماية أو المصالح للدول الأعضاء، وتدعو -بالتالي- لأن تعتمد الدولة على قوتها الذاتية وتحالفاتها في السياسة الخارجية؛ فإن "الليبرالية" تؤمن بأهمية القانون الدولي والمنظمات الدولية كوسيلة لحل النزاعات ومنعها. والولايات المتحدة الأميركية الآن، في الموقف من القضية الفلسطينية، ترتد ضد القانون الدولي والمؤسسات الدولية، وتهدد بتدمير الكثير من إنجازات البشرية.
هناك إصرار إسرائيلي، بموافقة أميركية، على أنّ لا تُبحث قضية فلسطين في الأمم المتحدة والهيئات الدولية، والإبقاء على الإطار الثنائي للمفاوضات، رغم حالة الاختلال الكبيرة والرفض الواضح من الطرف الإسرائيلي لأي تسوية، ورغم التنازلات الفلسطينية الكبيرة التي تثير غضبا بين القوى السياسية الفلسطينية. وقد وصل الأمر بعضو كونغرس يتداول اسمه للترشح للرئاسة الأميركية، هو لندسي غراهام، إلى القول، أول من أمس، إنّه سيكون هناك رد فعل أميركي عنيف ضد الأمم المتحدة إذا "قامت بالاستيلاء على عملية السلام"، ومن ذلك وقف التمويل للمنظمة الدولية. وذكّر غراهام بأنّ الرئيس الأميركي قال في العام 2011 إن الأمم المتحدة ليست المكان الصحيح لمناقشة عملية سلام تسعى للوصول إلى حل الدولتين.
ويمكن أخذ احتمالات معاقبة الولايات المتحدة للأمم المتحدة بجدية، إذا ما تذكرنا أن واشنطن أوقفت نهاية العام 2011 دفع حصتها في تمويل منظمة اليونسكو، رغم أهميتها العلمية والثقافية عالميا، وذلك عقابا على قرار الدول الأعضاء أصحاب السيادة في المنظمة قبول عضوية فلسطين. إذ أعلنت واشنطن حينها وقف دفعة قيمتها 60 مليون دولار. وقتها، قالت الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأميركية، فكتوريا نولاند: "تبقى الولايات المتحدة ملتزمة، وبقوة، بدعم اتفاقيات صحية متعددة الأطراف في الأمم المتحدة. لكن العضوية الفلسطينية كدولة في اليونسكو تثير موقفا تشريعيا قديما يقيد الولايات المتحدة من الإسهام في اليونسكو". والواقع أنّ واشنطن بقرارها هذا فقدت حق التصويت في اليونسكو، بما يعنيه هذا من تراجع قدرتها على التأثير في القرار العالمي بشأن الثقافة والتعليم، وهما مجالان يعد استمرار الهيمنة فيهما مهماً للمصلحة الأميركية القومية.
هذا الموقف يتفق مع ما قاله عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مسؤول ملف المفاوضات، صائب عريقات، في ندوة مصغرة مؤخرا، بأنّ السياسيين الأميركيين يخبرونهم (الفلسطينيين) بأنّ موضوع العضوية الفلسطينية في المنظمات الدولية خط أحمر بالنسبة لواشنطن، لأنّه يعني احتمال اضطرار الأميركيين تجميد عضويتهم في هذه المنظمات، تبعا لموقف وقرار مسبق، ما يعني، بحسب هذا المنطق، أن الفلسطينيين سيتسببون في إجبار الولايات المتحدة على العزلة.
مع تأسيس الأمم المتحدة التي استقرت في الولايات المتحدة، بدا أنّ العالم يقوم بالفعل بالتقدم نحو المؤسسية الدولية، والمزيد من الاحتكام للقانون الدولي. ولطالما آمن الفلسطينيون بأنّ القانون الدولي يتوقف ولا يعمل عندما يصل الأمر إلى قضيتهم، وأن المنظمات الدولية غير قادرة أو غير راغبة في حمايتهم. وبما أنّ هذه المنظمات تعبر عن موقف الدول الأعضاء والفاعلين فيها، فإنّ كثيرا من الفلسطينيين اعتقدوا أنّ دول العالم الكبرى أعداءهم. والآن، بإصرار واشنطن على رفض الاحتكام للقانون الدولي في الموضوع الفلسطيني، وإصرارها على دعم إسرائيل بغض النظر عن كل خروقاتها للقوانين الدولية ولحقوق الإنسان، فإنّها تريد من الفلسطينيين أن لا يطالبوا بحقوقهم أو حتى بجزء منها دوليا، وإلا فهي تريد من باقي الدول ألا توافق على هذه المطالب، ولذلك تبذل جهودا كبرى لعدم الوصول إلى عملية التصويت على قرارات تخص الفلسطينيين. وإذا لم ينجح هذا، فقد تستخدم حق النقض (الفيتو) لمنع القرار. وإذا لم ينجح هذا أيضاً، فربما تكون مستعدة للتضحية بالأمم المتحدة ذاتها وبالقانون الدولي، وبكل أفكار تطوير شرعية دولية تؤدي لسلام عالمي، طالما يمس هذا بإسرائيل التي تنادي أيضاً جهارا نهارا بأنّها تريد أن تكون دولة على أساس ديني، خلافا لكل العالم.
بعيدا عن المستويات السياسية الرسمية، يحتاج الأكاديميون والحقوقيون حول العالم إلى وقفة حقيقية احتجاجية على هذا التفكير الأميركي المدمر.
الغد 2014-12-31