متوالية الموارد والتغيير السياسي
تبدو الولايات المتحدة الأميركية، كما في كتاب "لماذا تفشل الدول" لمؤلفيه دارون اسيموغلو وجيمس روبنسن، نموذجا يصلح حالة دراسية للأمم التي تتشكل حول مواردها، وتنشئ نظامها السياسي لأجل تنظيم هذه الموارد وحمايتها وتعظيمها وتوزيعها بعدالة، وكيف تنشأ في ذلك البرامج والمؤسسات السياسية والاقتصادية. فعندما استقلت الولايات المتحدة الأميركية في العام 1776، كان قانون الانتخاب حتى منتصف القرن التاسع عشر، يستثني جميع السود والنساء البيض من الانتخاب. وبدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اقتصادات جديدة حول التكنولوجيا، مثل سكة الحديد والنفط، صحبتها ممارسات احتكارية. وصار روكفلر نتيجة لذلك أول ملياردير في العالم (1916)، وتقدمت صناعة النفط وسكة الحديد والمصارف والشركات الكبرى. وكانت "مورغان للصلب" أول شركة في الولايات المتحدة العام 1901 برأسمال يزيد على مليار دولار.
وبدأت تظهر الحركات الاجتماعية والسياسية المعارضة للاحتكار والامتيازات، وعمليات حشد وتعبئة الجماهير والرأي العام. فكان قانون التجارة بين الولايات للعام 1887، استجابة لهذه الضغوط الشعبية. ثم قانون منع الاحتكار للعام 1890. وتشكلت منظمات لحماية الحقوق ومواجهة البارونات، مثل اتحاد المزارعين.
وكان مجيء الرئيس ويلسون العام 1912 تتويجا للنضال الاجتماعي والسياسي للشعب الأميركي في مواجهة الاحتكار والامتيازات، وتنظيم القطاع المالي، وإطلاق التنافس والمبادرات. وبدأ الإعلام يأخذ دورا رائدا في الرقابة على المؤسسات، والتوعية والتنظيم باتجاه أولويات المجتمعات وأهدافها، وإطلاع الشعب على مجريات الأحداث والمعلومات التي تمكنه من العمل واتخاذ المواقف الملائمة.
انتخب فرانكلين روزفلت رئيسا للولايات المتحدة في العام 1932، فيما كانت أزمة الكساد الكبير تجثم على البلاد. إذ وصلت البطالة نسبة 25 %، وانخفض الإنتاج الصناعي إلى النصف. وركزت سياسة روزفلت لأجل الإنعاش على إنصاف العمال، وتنظيم العمل والنقابات، وإعانات الأسر والبطالة. وقد منحه إعادة انتخابه وزيادة شعبيته في العام 1936 تفويضا جديدا لمواصلة الإصلاح الاقتصادي. ووجد روزفلت من تجربته في الفترة الأولى أن إصلاح المحاكم والقضاء هو المدخل الأساسي للإصلاح الشامل، وتنظيم العلاقة بين السلطات، وتوازنها.
لا تظهر المؤسسات الشاملة تلقائيا، ولكنها نتيجة للصراع بين النمو الاقتصادي والتغيير السياسي؛ والنخب المؤيدة من جهة والنخب المقاومة لهذا النمو والتغيير من جهة أخرى. فيبدأ الصراع لأجل تكريس التعددية، ومنع جمع السلطات بيد شخص واحد؛ ذلك أن تركيز السلطات يقوض أسس التعددية السياسية. ثم يتجه الصراع إلى مبدأ سيادة القوانين، ووجوب المساواة أمام القانون والمحاكم بلا استثناء. وقد بدا واضحا في التجارب التاريخية أن ذلك يستحيل في ظل نظام سياسي استبدادي. ولاحظنا في بريطانيا أن النضال لأجل ذلك بدأ بتوسعة القاعدة الانتخابية، لتشمل جميع البالغين من الذكور والإناث. وأدى النظام البرلماني الممثل لجميع فئات الشعب، إلى بناء مؤسسات اقتصادية تعود بالفائدة على الجميع؛ فأزيلت الاحتكارات والامتيازات، وألغيت العبودية والقنانة.
لقد حصنت الديمقراطية وأنظمة تقاسم السلطة في بريطانيا النظام السياسي من الدكتاتورية والانقلاب على السلطة المنتخبة، كما عززت المؤسسات السياسية الشاملة الإعلام الحر. وقد ساعد ذلك في تقديم المعلومات للمعارضة، ولأجل لفت الاهتمام وحشد الرأي العام تجاه ما يهدد المؤسسية الشاملة.
(الغد 2015-01-01)