حرب التشهير
في صراعنا مع أنفسنا ومع إسرائيل، وصلنا هذه الأيام إلى فصل إضافي في فصوله المتعددة والمتلاحقة، إنه فصل التشهير. ولكل نصيب من هذا الفصل، فمن يشكلون خطرا أمنيا – يتواصل معهم الفصل التقليدي وهو التصفية الجسدية من دون راد أو رادع.
ومن يشكلون خطرا معنويا، أو سياسيا، فلهم الحظ الأوفر في التشهير وإشاعة الفضائح.
وفصل التشهير تتولاه عادة ميليشيات مزروعة في ثنايا المجتمع الفلسطيني، بكل قطاعاته وتشكيلاته وفي أمر التشهير تكتفي إسرائيل بمراقبة صراعنا الداخلي فتدخل على خطه بحرفية عالية، وحين تشاع قصة ما على فلان، فإن علانا سيتولى ترويجها وتأكيد صدقيتها، والعكس بالعكس.
وفي أمر التشهير، لا نستطيع تبرئة أنفسنا من التورط في هذه العملية البشعة، ولعلنا نذكر، كيف أسهمنا في الترويج لظاهرة الفساد في السلطة منذ بداياتها وحتى الآن، وكيف كنا نستخدم الظاهرة ليس من أجل إيجاد الحلول الفعالة لها، وإنما لاستخدامها في سياق الصراع الداخلي، حيث التشهير والحرق هو السلاح الأمضى والأسهل إلا أنه الاخطر على كل حال، ولعل السبب الجوهري الذي يكمن وراء استفحال هذا المرض العضال، هو غياب دور المؤسسة والقانون في ضبط كل أمور حياتنا. ذلك أن المؤسسة الضعيفة توفر للإشاعة سطوة مضاعفة، حيث الأفراد هم أصحاب المبادرة وهم في حالات كثيرة المنتج الدائم للاشاعات وحكايات التشهير، وحين نبحث عن مساءلة ما، فإننا لا نجد الجهة التي تمتلك صلاحيات المساءلة. سواء بشأن الأفراد أو الجماعات.
أما تراجع دور القانون في حياتنا، فقد أدى تلقائيا إلى استباحة كل الناس، في سمعتهم وأعراضهم، ومنذ تأسيس السلطة حتى يومنا هذا، فهنالك ملايين الاتهامات والاشاعات والوقائع المخلة بالأخلاق... ولا مساءلة واحدة، إلا النزر اليسير، بما لا يشكل واحدا بالمليون من حجم الظاهرة ومن عدد الأسماء التي جرى ويجري التشهير بها.
ومما زاد الطين بلة، أن التكنولوجيا المتقدمة، تستخدم في كل مكان في الدنيا لأغراض تنويرية وتنموية وتعليمية إلا عندنا، فالموبايل لرسائل التشهير كتلك التي كان يلوذ بها الطلبة حين يستخدمون جدران المراحيض للنيل من سمعة زملائهم ومدرسيهم.
أما الإنترنت فحدث ولا حرج، إذ لولا بعض الاعتبارات لصار سيد عقلنا، ومقرر سياساتنا وصانع قادتنا ما دام الأمر يتصل بقدرة شخص ما على حشد الرسائل وإرسالها.ناهيك عن أجهزة التلفزيون الأرضية والفضائية، حيث البرامج الصريحة والمستترة، وحيث شريط الأخبار الذي فيه من التشهير المدروس أكثر مما فيه من الأخبار المفيدة.
ما الحل؟
إن تزويد الجهات المعادية، والأدوات التكنولوجية الفعالة بمواد التشهير، غالبا ما يأتي من عندنا، على اعتقاد من المتاجرين بهذه البضاعة الفاسدة بأنهم يحرقون خصوهم من دون أن يدروا بأنهم قد يجدون من يفعل لهم ما يفعلون بغيرهم؛ ثم ما فائدة نفوذ فلان أو علان حين يوصم مجتمع بكامله بالفساد وسوء الأخلاق والانحراف. قد يقول قائل وما علاقة المجتمع بسلوك بعض الأفراد، الجواب حين يكون الفرد المستهدف تعبيرا عن سلطة قائمة منتخبة فإن كل ناخب أدلى بصوته لمصلحة هذه السلطة لا بد أن تطاله قطرة من مطر التشهير. قد تستخدم فيما بيننا أسماء معينة إلا أن العالم المحيط بنا سينسى الأسماء ويتبع الظاهرة. وخلاصة الأمر إشاعة أن هذا الشعب الذي تفشت فيه كل هذه الظواهر لا يستحق دولة، بل يجب أن يظل تحت سطوة احتلال، فهذا أسلم له من أن يتولى أمره هذا الكم الهائل من صناع الفساد المميز!!!
إنني وأنا أدعو وأناضل من أجل وضع حد لهذه الظاهرة المدمرة أدعو بالمقابل إلى رفع مستوى النقاش والخلاف والاختلاف في مجتمعنا. ولقد غاب عن حياتنا أي جدل سياسي محترم، وغابت عن منابرنا تلك المناظرات العادلة التي يكون موضوعها صراعا اجتهاديا بين أفكار مختلفة، إلا أن الهدف منها هو مصلحة البلاد والعباد.
إن غياب النشاط السياسي الداخلي والحواري، هو ما يوفر مجالا خصبا لمن يعرفون كيف يملأون الفراغ بحكايات فلان وفلانة.
ورغم أن الحل لهذه الظاهرة المرعبة في أيدينا، إلا أننا لا نقدم عليه إما بسبب الخمول العام الذي فرض نفسه علينا أو بسبب انشغالنا إلى درجة الاستغراق المطلق في نزاعنا الداخلي.
في غياب المجلس التشريعي، يمكن ان نلوذ بالمراسيم الإيجابية والضرورية لتنظيم المساءلة وضبط قواعدها، ويمكن إصدار مرسوم بتشكيل الهيئة الوطنية العليا للمال العام، ولا يعترف بأي قضية لا تمر على هذه الهيئة.
بذلك تصبح اشاعات مجرد اشاعات، ويصبح صناعها مجرد طابور خامس لا يتجاوز تأثيره في حياتنا الواحد بالمائة.
لقد وفرت التكنولوجيا لهواة تدمير الكيانات والتجارب إمكانات ضوئية يستطيعون من خلالها قلب حياة الناس إلى جحيم، وإيصال وعي الناس إلى درجة من الانغلاق واليأس والبحث عن أبواب هجرة إلى أي مكان.
بضغطة زر، يمكن أن تهتك عرض أشرف الناس، وبضغطة زر آخر يمكن أن تشغل مجتمعا بأسره في نقاش حول فزورة بدائية.
وبضغطة زر، تمنح مشبوها براءة ونزاهة، وبضغطة زر ينزع عن رجل مستقيم كل ما يعتز به في حياته وسلوكه.
فلنبدأ عملية محاربة علمية ومنهجية وقانونية لهذا العبث التكنولوجي في حياتنا، وإلا فإن مجتمعا عظيما كالمجتمع الفلسطيني أفلت من كل مراحل التصفية الحتمية ليبني نفسه ويحافظ على حلمه سيصبح شعبا أو مجتمعا آخر، أبرز سماته عبودية سهلة وخطرة لمن يستطيع الضغط على الأزرار.
ملاحظة أخيرة، إنني أدرك بوعي، خطر الاحتلال علينا، وأدرك كذلك سعي إسرائيل لحسم الصراع معنا لمصلحتها، إلا أنني لا أرى أن إسرائيل تستطيع تحقيق نتائج حاسمة، إذا أغلقت أبواب بيوتنا أمامها، وإذا حصّنا أنفسنا نفسيا وأخلاقيا وحضاريا أمامها، ساعتئذ تطيش كل السهام ولا تصيبنا رسائل الـ"SMS" بمقتل.
*عضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية