رسائل من تحت «الثلج»..!

ماذا حدث لمجتمعنا..؟ هذا السؤال ما زال يطاردني منذ ان بدأنا “فزعة” التحذير من قدوم العاصفة الثلجية ثم الاستعداد لها والتخطيط لمواجهتها والتعامل معها، لكنني للاسف لم اوفق حتى الان في الاجابة عنه.
لا اريد بالطبع ان اقلل من حدة المنخفض الذي تعرضت له بلادنا، مثل غيرها من البلدان المجاورة، ولا من اهمية الاستعدادات والاجراءات التي قامت بها الاجهزة المختلفة، ولكنني اعتقد – من خلال خبرتي المتواضعة- انها المرة الاولى التي نستنفر فيها بهذا الشكل المفزع، لدرجة ان ما انفقه المواطنون خلال ثلاثة ايام فقط تجاور الـ(10) ملايين دينار فيما استهلكوا نحو (20) مليون رغيف، كما ان رفوف بعض المولات والمتاجر بدت فارغة تماما، واصطف المئات امام المخابز ومحطات الوقود لانتظار دورهم، وكأننا في مواجهة “حرب” قادمة، او زلزال متوقع لا قدر الله، اما وسائل الاعلام فقد تفرغت وتوحدت على خطاب “ثلجي” لتحشيد المواطنين وتخويفهم ، وبالتالي تعطلت الحياة تماما، واخذ الجميع اجازة اضطرارية لمدة اربعة ايام وربما اكثر.
حين “نغرق” في منخفض جوي عابر، ونقف على قدم واحدة لاجتياز امتحانه، ونحشد كل امكانياتنا للتعامل معه، وتنتابنا حالة من الفزع للاستعداد له، يبدو السؤال عما اصاب مجتمعنا من تحولات اجتماعية وما تعرض له من اصابات نفسية سؤالا مشروعا، وحتى لو اتفقنا مع الذين اتهموا السياسة بانها تدخلت في اخراج الازمة، واشغلت الناس بها، او مع الاخرين الذين حمّلوا الاعلام مسؤولية التحشيد والتعبئة، فان قابلية المجتمع لابتلاع الطعم والغرق في “وهم” التحوط بهذه الصورة التي كنا نظن انها غريبة علينا، هذه القابلية تعكس خللا كبيرا داخل مجتمعنا، كما انها تكشف مدى قدرة هذا المجتمع على مواجهة ما يمكن ان يحدث من ازمات في المستقبل، لدرجة ان احد زملائنا الكتاب تضرع الى الله ان لا يمتحننا بأزمة اكبر من هذه “ الثلجة”.
اعرف ان لدى اخواننا المعنيين بالدراسات الاجتماعية والنفسية ما يلزم من اجابات، وهي بالطبع ضرورية لفهم “حالة” مجتمعنا والتعرف إلى التحولات التي طرأت على شخصيتنا العامة، لكنني استأذن بالاشارة الى بعض الملاحظات( الانطباعات ان شئت) : الاولى ان ما شاهدناه وما عايشناه يعبر عن حالة من “الخوف “ الذي ينتاب الناس –غالبا – في مرحلة ما نتيجة الاحساس بالتجارب المرّة التي مروا بها، او لتأثرهم بتجارب الاخرين وازماتهم ، مما يولد لديهم الرغبة بمواجهة هذا الاحساس بما يلزم من تحوط واستعداد، وربما المبالغة فيه ايضا، الملاحظة الثانية ان ما حدث يعكس حالة من تراجع الثقة بقدرة الذات على مواجهة الخطر، او بقدرة الجهات المعنية على التعامل معه، ومع تراجع هذه الثقة غالبا ما يندفع الافراد الى هوس الاعتماد على انفسهم بشكل غير عقلاني ، وربما يفرطون في ذلك وكأنهم يتحدون الظروف التي يواجهونها، الملاحظة الثالثة ان ردود افعال مجتمعنا بالمقارنة مع ما الفناه في مثل هذه الظروف قبل عقد او اكثر تعكس(الردود) ما اصاب منظومة قيمنا من تراجعات، وما تكرس من ثقافات جديدة ، خذ مثلا ما يتعلق بالفردانية والانانية والنهم الاستهلاكي والجشع التي طفت على سلوكياتنا العامة في الايام الماضية مقابل القيم التي كان مجتمعنا يتمثلها فيما مضى مثل “العونة” والتكافل والقناعة ومساعدة الاخرين، وهذه التحولات لا تتعلق فقط بما طرأ على “التدين” العام للناس من اختلالات في الفهم والتطبيق وانما تتعلق ايضا بما طرأ على “السياسة” من تحولات اثّرت سلبا على اخلاقيات المجتمع وعلاقة الناس ببعضهم.
اما الملاحظة الرابعة فهي ان المجتمعات التي تعاني من انسدادات وضغوط سياسية او اقتصادية عادة ما تبحث عن قنوات للتنفيس، واعتقد ان مجتمعنا وجد في “الثلجة” مجالا “لفشة” الخلق، سواء بمزيد من التسوق او بتداول النكت والتعليقات، كما ان المجتمع عبّر عن رغبة ما تزال تراوده في “الانتصار” على اية ازمة، حتى لو كانت بحجم “هدى” ، ولهذا يمكن ان نقول –مطمئنين- ان ما رأيناه لم يكن صدفة .
لا شك ان العاصفة الثلجية كشفت مزيدا مما حدث لمجتمعنا، لكنها ايضا كشفت اداء مؤسساتنا المختلفة وقدرتها على ادارة ما يمكن ان يواجهنا من ازمات، واذا كان ما كشفته على صعيد حالة المجتمع يفيد صناع القرار في توجيه سياساتهم ومقرراتهم بناء على فهم المزاج العام للناس وكيفية التعامل معه، فان ما كشفته على صعيد “ حالة “المؤسسات يفيد الجمهور ايضا في قراءة انماط التفكير والتدبير لمن يتولى الشأن العام، واعتقد ان الرسائل قد وصلت للطرفين معا، لكن هذه المرة من تحت “الثلج”..!!
(الدستور 2015-01-11)