إشراقات في العاصفة..!

ما نزال نعيش أجواء العاصفة الثلجية، بخبرات متفاوتة. هناك الذين تمر عليهم العاصفة برداً، وإنما سلام. وهناك الذين يعانون البرد، لكن السلام غاب عنهم أيضاً. لا شيء جميلا في العواصف بالنسبة للمنكوبين واللاجئين في منطقتنا المليئة بالحروب. ولا شيء من هدأة البال في اضطرار المرضى من مواطنينا إلى زيارة المستشفيات في هذه الأجواء، أو معاناة نقص الإمدادات والخدمات أو حدوث طارئ غير متوقع. ومع ذلك، يتحدث آخرون عن فكرة الاجتماع الأسري الذي أصبح نادراً في الأجواء العادية -إذا كان حميماً وليس من النوع الذي يوقظ المشاكل النائمة فقط. هناك الذين أصروا على إتمام زواج في موعده، برغم الصعوبات. وهناك الصديق الذي هاتفني ليسأل عن إمكانية نشر إعلان تهنئة لابنته التي أنجبت توأماً في العاصفة، وبدا سعيداً إلى درجة نسيان تعذر توزيع الصحف.
من المشاهد المثيرة للغيظ في هذه الأجواء، كان قيام صاحب سيارة رباعية الدفع من ضيوف الأردن، باستغلال الثلج للتزحلق بالسيارة و"التخميس" و"التفحيط" وسط مصلب على منحدر. وقد نجت السيارات المصطفة بأعجوبة من السيارة التي أفلتت كثيراً عن السيطرة، وكذلك أعمدة الكهرباء التي كاد يصدمها أكثر مرة، فيقطع التيار عن المنطقة ساعات أو أياما. وفي جليد أمس، شاهدت عدة سواقين يستديرون بسرعة في نفس المصلب، بطريقة "التخميس". وهناك أيضاً مشاهد السيارات الجانحة والمتعطلة التي خرج أصحابها بها بلا ضرورة، كما تبين من العدد الكبير للرخص التي احتُجزت لهذا السبب.
مع ذلك، هناك جملة من المظاهر التي رافقت العاصفة الثلجية وشكلت نقطة إشراق. ومن أبرز هذه الإشراقات، فكرة العمل التطوعي والتضامن الاجتماعي. وقد سمعنا وشاهدنا في الإعلام مؤسسات خاصة وأفرادا، ممن تبرعوا بآلياتهم أو مركباتهم المجهزة وبجهودهم، لفتح الطرق ومساعدة السلطات وإغاثة مواطنيهم. ويتمنى المرء لو أن هذه الظاهرة الإبجابية لا تكون مرتبطة بالعواصف فقط، وأن تصبح سمة اجتماعية دائمة. وليس المبدأ جديداً على مجتمعنا بالمطلق. كان الناس في السابق يكشفون عن هذه السمة تلقائياً عندما كانوا أبسط. كان سكان الحيّ يتعاملون مثل الأقارب، بحيث لا يشعر المرء بالوحدة إذا احتاج إلى التضامن والمساعدة. لكن الحياة المدنية غربت الناس، بحيث لم يعد الواحد يعرف جاره القريب ولا يبادله التحية. ولم نعد نرى في الأحوال العادية مبادرات منسقة لتنظيف الأحياء أو خدمتها لصالح قاطنيها بجهد مدني. وحتى مبنى الشقق الواحد لا يتفق سكانه على خدمته. لكن المتطوعين في العاصفة جسدوا استمرار وجود هذا الجوهر الذي يظهر ولو في مناسبات أكثر تباعداً.
كان من الإشراقات أيضاً توفر الخدمات. وقد لاحظت في منطقتنا كثيفة الثلوج أن المحلات والبقالات والصيدليات فتحت أبوابها كل الوقت، ووجد الناس فيها كل ما احتاجوه تقريباً. وإذا كان هذا هو واقع الحال في عدد معقول من المناطق، فإن ذلك يعني أن الأمور أفضل بكثير مما صوّرنا لأنفسنا، وأن حجم التخويف والتهويل كان مبالغاً فيه. ولعل في ذلك ما يطمئن إلى أن هناك استعداداً وطنياً أحسن مما تؤويه انطباعاتنا، على المستويين الشعبي والرسمي، لمواجهة الطوارئ المختلفة. وفي ذلك أيضاً ما يؤيد اقتراح أن لا يندفع الناس إلى التخزين والضغط على الأسواق وعلى أنفسهم ومواطنيهم في المرات المقبلة. ولو كان الناس أكثر حذراً فقط في مسألة المغامرة بالخروج، كما حدث في مناسبة الوفيات المؤسفة مساء الجمعة، لما كان لدرجات الحرارة المتدنية والانجماد ذلك التأثير المرعب الذي تخيلناه.
المسألة المشرقة المهمة الأخرى، وبالرغم من تطلعنا دائماً إلى الأحسن، كانت تعامل الجهات الرسمية المختلفة مع الحالة الجوية. وقد تمكنت هذه الجهات من إبقاء الشوارع والخدمات والمطارات عاملة. وفي حين اتخذ معظمنا من أحوال الطقس مناسبة للاستراحة والبقاء في البيوت، كان هناك آخرون ممن اقتضت طبائع أعمالهم بقاءهم تحت رحمة العاصفة في الشوارع الداخلية والخارجية، وفي الليل والنهار، من أجل إبقاء مواطنيهم آمنين. لهم التقدير والشكر.
بالنظر إلى درجة الاستنفار التي وُضعنا فيها، كان الأداء أجود من المتوقع، وأظهر أن لدينا دائماً فرصة لرؤية الإشراقات، حتى في غمرة أكثر العواصف قسوة.
(الغد 2015-01-11)