حكايات قديمة وخواطر من.. الزمن الصعب!
بعد اقل من عام ونصف على صدور كتابه «الأول» او مذكراته التي حملت اسم «رحلة العمر من شاطئ غزة الى صحراء الجفر», ذلك الكتاب المثير للجدل والذي اضاء على مرحلة مهمة وحيوية من مسيرة الحزب الشيوعي الاردني ورعيله الاول, وخصوصاً مَنْ كان منهم على رأس الحزب منذ مسيرته الفلسطينية الاولى كعصبة التحرر, ثم ما انتهى اليه اسمه ليصبح الحزب الشيوعي الاردني, وقبل أن يحدث «فك ارتباط» بين الحزب الشيوعي الفلسطيني, الذي أخذ اسمه لساحة نضاله الجديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة, واحتفاظ الحزب الشيوعي الاردني, برايته وعدم اللجوء الى تغيير اسمه, لـِ»يتماشى» مع المناخات الدولية الجديدة, التي آلت اليها الامور مع انتهاء الحرب الباردة وتفكك منظومة الدول الاشتراكية وانفراط عقد الاتحاد السوفياتي (وبالتالي حلف وارسو), كما فعل الحزب الشيوعي الفلسطيني, الذي غدا اسمه حزب الشعب الفلسطيني, بعد ذلك كله يخرج علينا هذه الايام المناضل الشيوعي العريق, النظيف والصلب وطيب القلب عبدالعزيز العطي, بكتاب آخر يحمل عنوان «حكايات قديمة وخواطر من الزمن الصعب» يروي فيه هذا الرجل التسعيني, الذي لم يغادره التفاؤل ولم يفقد الامل والايمان بحتمية انتصار هذه الامة وقدرتها على تجاوز مرحلتها الصعبة الراهنة, وتوافر الامكانات والثروات وخصوصاً الارادات بين صفوف شعوبها للتخلص من الترهل والتبعية والفساد, أياً كانت العوائق والتحديات والمؤامرات وتحديداً في انكشاف «فِرَقْ» وطوابير العملاء والخونة ودعاة التطرّف والارهاب والتكفير والتزمت..
ميزة كتاب عبدالعزيز العطي الجديد (كما كتابه الأول) انه يبتعد عن التنظير, ولا يميل الى تقمّص دور البطولة أو السير على نهج الادّعاء ونفخ الذات, كما يفعل كثير من الذين ظنوا – وما يزالون – انهم مركز الكون وأباء النضال, وان الباطل أو الاخطاء لا تأتيهم من قبل ومن بعد, فيما ظهورهم مكشوفة وسرديتهم مطعون فيها, وما يكتبون أو يروون مجرد افتعال, لا يلبث أن يضيع عندما تسطع اضواء الحقيقة وتصفع الوجوه والاوهام على حد سواء..
الكتاب الجديد الذي فضّل فيه «العُطيّ» ان يستعيد مرحلة طفولته ويفاعته وشبابه «الأول والقصير», يضيء على مخزون ذاكرة هذا الرجل الطيب, الذي ورغم المرض الذي ألمّ به في الأونة الاخيرة, وحدّ من حركته والزمه بيته المتواضع, ولكن الدافئ والمضياف والحميمي في الاستقبال والوداع والنقاش, يلحظ المرء بعد قراءته, حيوية ذاكرة هذا «الشيخ المجاهد» الذي يُذكّر في إحدى حكاياته القديمة, ولكن المثقلة بالدلالات والايحاءات وخصوصاً الرمزية والتداعيات، يُذكّر الرفيق فؤاد نصار الامين العام التاريخي والاشهر للحزب الشيوعي الاردني, بأن الصلاة بدون وضوء لا تجوز، ولأن الشيوعية «وأتباعها» لا علاقة لهم بمؤامرات واحابيل التشويه والاساءة للأديان- كما اشاع الاستعماريون وعملاؤهم في المنطقة العربية وفي العالم عبر ادعاءاتهم واكاذيبهم وافتراءاتهم التي دأبت المخابرات الغربية وعلى رأسها CIA على تكرارها, بأنهم لا يُصلّون ولا يؤمنون بالله وان الاديان بالنسبة لهم ولآباء الشيوعية الاوائل هي «أفيون للشعوب»، فان «ابو الوليد» يروي حكاية للرفيق فؤاد نصار–ببساطة وصدق مدهشين-».. كان لي موعد مع الرفاق في الشونة الشمالية, وطلبت من الرفاق دعوة جميع الاعضاء لحضور الاجتماع: اولاً لأنهم يعرفون بعضهم البعض وثانياً لان البلاد كانت تمر في حالة انفراج سياسي، وذهبت الى الشونة ووجدت الرفاق جميعهم ما عدا مَنْ كان عليه العمل في تلك الليلة في سَقْي البستان الذي يعمل فيه.. بدأنا بجدول البحث (يضيف العطي من ذاكرته الحديدية وبخاصة ان يتحدث عن حكاية عمرها نصف قرن).. وفي اثناء الاجتماع سمعنا صوت المؤذن والدعوة للصلاة, فقاموا جميعاً–ما عداي والرفيق سكرتير المنظمة الحزبية–وبعد ان أنهوا صلاتهم قلنا لهم تقبّل الله, وواصلنا اجتماعنا تلك الليلة..
يواصل العطي مُلخِصاً الحكاية: في الصباح ذهبت الى بيت الرفيق فايز الروسان (في اربد بالطبع) وحدثت الرفيق فؤاد نصار عن اجتماعي في الشونة، وذكرت له بأن جميع الرفاق قاموا وأدّوا صلاة العشاء ولم يبق جالساً سواي والرفيق سكرتير اللجنة المحلية. فقال الرفيق فؤاد: كان «يجب عليك ان تقوم وتؤُم الصلاة بهم، قلت له: يا رفيق هؤلاء جاءوا من بيوتهم ومعهم وضوء، أما أنا، فلم يكن معي وضوء ولا تجوز الصلاة بدون وضوء..
ليس في الامر مبالغة او ادّعاء او تَملّق، حكاية بسيطة ذات مدلولات عميقة، فالنضال السياسي وخصوصاً الشيوعي منه, يفصل بين المعتقدات والمشاعر الدينية وبين العمل السياسي والالتزام الاخلاقي والسلوكي، وهو امر مُثْبت وحقيقي ومُمارس منذ وقت طويل، وليس كما زعم–وما يزال يزعم–المُرجفون والمدّعون، وبخاصة بهلوانات الاسلام السياسي والجماعات التكفيرية والجهادية والظلامية التي تريد اعادة الأمة الى مرحلة الجاهلية، وليس فقط مرحلة الخلافة الاولى والسلف الصالح على ما يزعمون ويكذبون..
كتاب عبدالعزيز العطي الجديد يستحق القراءة والتدقيق, فهو رغم بساطة سرده (وهنا تكمن قوته وجاذبيته) يضيء على كثير من المسائل والمحطات, علماً انه يقع في اقل من مائة صفحة من القطع الكبير.
(الرأي 2015-02-01)