عندما يكون الحقد عنواناً

إعادة بناء الأمة يحتاج إلى مشروع فكري، وفلسفة حضارية راقية، يحملها مفكرون وأصحاب تقويم إنساني راقٍ، قادر على الارتفاع بنفسيته وسويته الآدمية إلى هذا المستوى الرفيع من حيث الروح السامية التي تطفح بالإيمان، ومن حيث القلب العامر بالقيم النبيلة، ومن حيث العقل القادر على رؤية الأهداف البعيدة، والإلمام بالمشهد بشمول، ويملك موهبة الموازنة بين السلبيات والايجابيات، ومن حيث الأقوال والأفعال التي تترجم هذه الغايات وهذه المعاني إلى واقع ملموس وحقيقي يشهده العامة والخاصة من أجل إيجاد الثقة الكبيرة والعميقة بأصحاب المشروع الجديد.
الرسول (محمد صلى الله عليه وسلم) عندما بدأ مشروعه في إعادة بناء العرب أولاً، وإعادة بناء أمة تحمل مشروع هداية البشرية، كان هو أولاً يتمتع بسوية آدمية، عقلاً وروحاً وقلباً وقولاً وعقلاً، ثم بدأ باجتذاب الشخصيات التي تقترب من هذا المستوى النبيل وقادرة على حمل هذه الفكرة العظيمة التي تحتاج إلى نفسيات عظيمة وأخلاق عظيمة، مثل أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب والزبير بن العوام، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، ومصعب بن عمير، وحمزة بن عبد المطلب، من خيرة ما أنجبت بطون قريش أصالة وشجاعة وكرماً ومروءة وخلقاً ونبلاً في أعلى مستويات التربية والإعداد.
تعرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يعرض دعوته لأشد أصناف الإيذاء والمكر والعداء، والاعتداء، ومحاولة الاغتيال، والمقاطعة له وللعشيرة كلها من نساء وأطفال وضعفاء ليموتوا جوعاً، وعندما هاجر إلى المدينة، رجع إليهم بعد مرور ثلاثة عشر عاماً إلى مكة فاتحاً، فعندما وقف عليهم قادراً مقتدراً وهم في قبضته، قال لهم : ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء...
الرسول (صلى الله عليه وسلم) له الحق بالانتقام والقصاص، وإيقاع العقوبة بأولئك الذين أسرفوا في بغضه وعدائه وإيذائه، ولكن سن سنة لأتباعه من بعده بأن حملة مشروع الهداية وحملة مشروع بناء الأمة، يجب أن يرتقوا إلى ذلك المستوى الرفيع الساحق الذي يعلو فوق غريزة الانتقام، وفوق المستوى البدائي من التوحش، الذي لا يسهم في البناء ولا في نشر الفكر.
إن حادثة حرق الطيار الأسير معاذ الكساسبة، تشير بكل وضوح إلى ذلك المستوى البدائي من التوحش الذي لا يجوز نسبته إلى الفكرة الإسلامية، ويسيء إلى المشروع الحضاري العظيم وسوف يشكل عائقاً كبيراً امام القدرة على الهداية، فهؤلاء المتمردون الذين انطلقوا من أقبية السجون والتعذيب على خلفية ارتكاب جرائم مروعة بحق المجتمع، وإن قبلت توبتهم لكن ليسوا مؤهلين لحمل مشروع إنساني، فهذا مخالف لسنن الكون وسنن التغيير الاجتماعي، بكل تأكيد حتى لو كان هناك بعض العناصر المستغفلة ومن يحمل بعض التسويغات المجتزأة والمقولات المبتورة.
نحن الآن أمام حقيقة مروعة وصادمة، أمام مصيدة لمجموعة من أبناء الأمة المتحمسين الذين سوف يذهبون إلى الفناء المحتم بتدبير بعض القوى الدولية والإقليمية، وسوف تكون العاقبة وخيمة، وسوف ينتج عن هذه المواجهة ضرر كبير يلحق بالإسلام أولاً، وبالأمة وشعوبها، وسوف تكون «اسرائيل» والدول المعادية لمستقبل الأمة هي الرابح الأكثر.
أما المظهر الأكثر خطورة فيتمثل بمآل الحركات الإسلامية عموماً، عندما يتسلل إلى صفوفها جمهرة من الساخطين وفئة من الناقمين لأسباب عديدة ناتجة عن الشعور بالظلم أو نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية، مما يؤدي إلى ظهور ميل غالب نحو سلوك التشفي والانتقام، مما ينعكس على المشروع برمته ويتحول نحو مآلات خطيرة وغير محمودة، عبر قرارات وسياسات انفعالية، بعيدة عن فلسفة الهداية والبناء.
ولن يكون هؤلاء قادرين على حمل رسالة ولا أداء أمانة، ولن يكونوا قادرين على إعادة بناء الأمة، بل سوف يكون أثرهم أقرب إلى التدمير والتشويه منه إلى البناء والإعمار.
(الدستور 2015-02-08)