في التخطيط بعيد المدى

ليست الحكومات بالمنطقة العربية في وضع يؤهلها لتخطيط قصير الأمد، أو حتى ضمن فترات متوسطة. فتعقيدات الإقليم الأمنية والسياسية، علاوة على التقلبات الحادة في أسعار النفط، تجعل الخطط الاقتصادية الآنية في مهب الريح.
عدم اليقين هذا ينجم عنه اضطراب، يدفع المخططين إلى الذهاب نحو عقود مقبلة. فالإمارات أعلنت أمس أنها تبني خططا لتنمية الموارد عبر استراتيجيات بعيدة المدى، لمدة خمسين عاما. وفي دول تشهد تحولات أمنية وسياسية كبرى، مثل مصر واليمن، وأخرى تشهد حروبا مثل العراق وسورية، يصبح التخطيط مقيدا في لحظته الحاضرة، وتلوذ حكومات تلك الدول بخطط بعيدة المدى.
في الشكل والمضمون بما يخص الأردن على صعيد التخطيط والتفكير الاقتصاديين للمستقبل، ثمة تصريحات على لسان وزير التخطيط والتعاون الدولي د. إبراهيم سيف، تفيد بأن الناتج المحلي الإجمالي بلغ العام الماضي 22 مليار دينار، منها 4 مليارات دينار ضرائب دفعها الأردنيون، مقابل 14 مليار دينار تمثل حجم المستوردات. وهو ما يعني انحسار الناتج المحلي الإجمالي في نطاقات ضيقة على صعيد الإنتاج الفعلي.
وفي الخطة العشرية الحكومية للفترة 2015-2025، تبدو الصورة أقرب إلى اعتماد برنامج تصحيح اقتصادي طويل الأمد، عابر للحكومات، يتم من خلاله تجنب مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية بطريقة وعقلية إدارة الأزمات. وتقف في مقدمة هذه الاستحقاقات إزالة التشوهات السابقة في بنية الاقتصاد، وتعزيز الاستثمار، وإيجاد حلول للبطالة والفقر، إضافة إلى تحديد التقلبات التي ستؤثر في الاقتصاد نتيجة التغيرات في أسعار النفط.
غير أن أي خطة مقترحة للمدى المتوسط أو حتى البعيد، يجب أن تعالج التشخيص الذي توصلت إليه الحكومة بشأن تشوهات أرقام سوق العمل. فالاقتصاد، كما يقول وزير التخطيط، ليس بحاجة للجامعيين، بل للمهنيين. فهل سنرى، فعليا، تغييرات في سياسات القبول الجامعي للسنوات المقبلة، أو فتح مراكز تدريب وتأهيل ترفد سوق العمل بالمهنيين بشكل مغاير لما كان في السابق، حتى وصلنا إلى كون نصف فرص العمل التي تتوافر سنويا تذهب للعمالة الوافدة لا المحلية، في بلد يتجاوز عدد سكانه 10 ملايين نسمة، ثلثهم من غير الأردنيين؟
ويبرز التغير الحاد في أسعار النفط باعتباره عاملا آخر يقيد الحركة بالنسبة لصانع القرار. إذ هو يدفع بالاقتصاد نحو البحث عن مصادر بديلة للطاقة، على الأقل فى المدى البعيد، وإعادة التفكير جديا في خيارات الصخر الزيتي وطاقة الرياح والشمس، حتى يتسنى للأردن أن يبدأ من جديد في سنوات لاحقة، بعيدا عن ضغوطات أسعار الطاقة وتعطل إمداداتها، وهي التي تسببت بإرباك اقتصادي كبير في سنوات مضت.
ثمة أسئلة تحتاج إلى إجابات تتعلق بمنسوب الاستقلالية في الهيكل الاقتصادي، وصولا للاعتماد على الذات. ومبدأ الاعتماد على الذات يحتاج سياسات حقيقية، تجنب الاقتصاد هذه الشهية المفتوحة للاستيراد، والاستسلام للخارج ومِنحه ومساعداته على حساب الخيار الداخلي، الأمر الذي أوصلنا إلى مديونية ثقيلة، وعجز متراكم في الموازنة، وبحث مستمر عن تمويلات لتغطية هذا العجز. إذا كانت دول خليجية غنية بالثروة بدأت بتبني استراتيجيات تتجنب أثر النفط وتقلباته في خططها واقتصاداتها، فإن الأولى بدول لا تملك مثل هذه الثروات الاستعداد لذلك. ويجب أن تعالج الخطط والاستراتيجيات كل التشوهات الماثلة؛ إذ ليس من المفيد تشخيص حالة الاقتصاد من دون أن تقدم خطط الحكومة حلولا لواقع اقتصادي متأرجح، في ظل استمرار عدم اليقين من حولنا.
(الغد 2015-02-10)