من منع الحليب واللبن إلى حل "السلطة"

بدءا من صباح اليوم الأربعاء، من المقرر أن يكون قد بدأ الحظر في المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية على شاحنات بضائع ست شركات إسرائيلية كبرى خصوصاً، في مجال الأغذية والأطعمة والعصائر. ومن المقرر أن يُسمح للتجّار بالتخلّص وتصريف البضائع الموجودة لديهم خلال أسبوعين. وستكون الجدّية والقدرة على تنفيذ القرار، علامة فارقة؛ قد تعني فعلا أنّ مرحلة جديدة سياسياً تبدأ.
بموجب هذا القرار الفلسطيني، يكون هناك قرار بالرد على عدم الالتزام الإسرائيلي باتفاقيات أوسلو وباريس الاقتصادية؛ بدءاً من عدم احترام حصانة المناطق (أ)، وعدم السماح بالتواجد الفلسطيني على المعابر الحدودية، وعدم تسليم الفلسطينيين نصيبهم من عائدات الضرائب (تشكل نحو 70 % من إيرادات "السلطة")، والكثير من الاتفاقيات الأخرى؛ وذلك من خلال خطوات فلسطينية مضادة تقوم على التحلل من الاتفاقيات أيضاً، بعد سنوات من الالتزام الفلسطيني رغم الخروقات الإسرائيلية.
أُعلن القرار من قبل اللجنة الوطنية العليا لمواجهة الإجراءات الإسرائيلية، وتحديدا من رئيسها، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" محمود العالول. وهو ما يثير أسئلة حول طبيعة العملية التي جرت وصولا إلى هذا القرار، وما هي إجراءات المتابعة ذات الصلة.
فالقرار كما يتبادر للذهن، يعني أموراً منها أنّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية ستتابع تطبيقه في مناطق تواجدها وسيطرتها. ولكن يبقى السؤال عن المناطق التي لا تتواجد فيها، وهي نحو 80 % من الضفة الغربية. وبالتالي، تصبح الإجابة المنطقية أنّ كوادر الفصائل والناشطين الميدانيين هم من سيتولى المهمة. وهذا بحد ذاته "انقلاب"، إذا تحقق، في توزيع الأدوار وطبيعة تعريف مهام المرحلة، ومقدمة للكثير من التغيّرات. فمثلا تطبيق هذا القرار وغيره قد يعني مواجهة مباشرة مع الإسرائيليين وجيشهم.
حتى الآن، كانت الجهات الرسمية الفلسطينية ترفض حتى التأييد الرسمي لمقاطعة السلع الإسرائيلية على الصعيد الدولي، باعتبار ذلك خرقا للاتفاقيات الموقعة بين الجانبين. ومن البدهي أن تختفي هذه المعارضة، وأن تزداد قوة الحجة الداعية إلى مقاطعة السلع الإسرائيلية عالميا.
تصل قيمة الواردات الفلسطينية من السوق الإسرائيلية إلى نحو أربعة مليارات دولار (في العام 2011 فاقت 4.2 مليار دولار)، وثلث هذه الواردات هي من الوقود ومشتقاته الذي يستورد بنسبة تصل لنحو 98.5 % من الإسرائيليين (الباقي من الأردن) ويصعب الاستغناء عنه. لكن واردات "السلطة" من الأغذية والحيوانات الحية (من الإسرائيليين وغيرهم) تشكل أيضاً نحو ثلث الواردات، ما يعكس أهمية هذا القطاع.
هناك أهمية اقتصادية مباشرة للمقاطعة إن فُعّلت، قد لا تكون إيذاء الاقتصاد الاسرائيلي بقدر ما هي خدمة الاقتصاد الفلسطيني، وتأمين فرص عمل ودخل جديدة، والانفصال تدريجيا عن الإسرائيليين. ولعلها مصادفة، ولكنها مصادفة ذات دلالة، أن يتحدث أمس الاتحاد الأوروبي عن فرض عقوبات جديدة على المستوطنات اذا لم تتجدد المفاوضات بعد الانتخابات الإسرائيلية. وبالتالي، فإنّ تفعيل المقاطعة الفلسطينية يقوي كثيراً فكرة المقاطعة الدولية.
على أنّ ما هو أهم من البعد الاقتصادي هو الأبعاد السياسية والميدانية. فإذا قرر الإسرائيليون تصعيد الموقف بمحاولة منع المقاطعة بالقوة، كمنع واعتقال من يريد منع البضائع الإسرائيلية، أو فرض المزيد من العقوبات على الفلسطينيين، فهذا يعني المزيد من التوتر، ويعني تشكيلات جديدة في العمل الميداني الفلسطيني لصالح العودة للمواجهات.
عمليّا، فإن خطوات المقاطعة المعلنة إذا ثبتت وجرى تفعيلها بقوة الأجهزة الأمنية والناشطين الميدانيين في المقاومة الشعبية، ستعتبر تغييرا لقواعد اللعبة وللعلاقات بين "السلطة" والجانب الإسرائيلي، قد تقود إلى تغيير تدريجي في المواقف والعلاقات، وقد تقود إلى تصعيد يصل مرتبة حل السلطة الفلسطينية بموجب قرارات إسرائيلية، لممارسة المزيد من الضغط و"الخنق" لها، ربما حتى انهيارها.
إذا كانت استراتيجية الموقف الفلسطيني الحالي القائمة على التدويل غير كافية حقا لتغيير موازين القوى وتغيير المشهد كليا، فإن تغييرات من نوع المقاطعة التجارية القسرية، وتصاعد حركة المقاطعة عالميا، تعني عمليا تآزر عملية التدويل مع المقاومة الشعبية. وإذا ما حدث هذا التآزر، فإنّ هناك احتمالا كبيرا بأن تنشأ حالة من الوحدة الوطنية، خصوصا ميدانيا، وبالتالي تتكامل عناصر استراتيجية جديدة: التدويل، والمقاومة الشعبية، والوحدة الوطنية.
(الغد 2015-02-11)