العلمانية المهدورة بيد أدعيائها

ما تزال العلمانية غير مفهومة أو واضحة حتى بالنسبة إلى فئة واسعة من أصحابها، أو من يظنون أنهم علمانيون. وهذه واحدة من تحديات العلمانية العربية: أنها لم تقدم بعد نفسها كما هي، أو أنها لم تُفهم بعد كما هي؛ فهي في نظر خصومها، بل كثير من مؤيديها، تعني واقعياً عدم التدين أو معاداة الدين. ويتحول الجدل حول الإصلاح إلى صراع بين المتدينين وغير المتدينين، وينجو الفاعل الرئيس، وهو السلطة السياسية، من جنايته الأساسية وهي "تديين" الدولة وتوظيف الدين في السلطة على نحو لا يختلف عما تدعو إليه الجماعات الدينية.
هذا الغياب للحقائق الأولية البسيطة، يجعل الإصلاح والجدل حوله في متاهة. فأن تكون السلطات السياسية في عداء مع الجماعات الدينية والإسلام السياسي، لا يعني أن السلطة علمانية؛ هو صراع مع الجماعات على الدين، وليس حول الدين ودوره، ولكنه في الحقيقة حول من يتولى الإدارة أو الوصاية على الشأن الديني. وأن تكون فئات واسعة من المواطنين غير متدينة، أو تخاف من الجماعات الدينية، لا يعني أنها علمانية. وهي في ذلك تجد نفسها حليفة للسلطات والأنظمة السياسية في صراعها مع الجماعات الدينية، لكن الدور الديني للدولة يظل قائماً، وتظل السلطات كما كانت على مدى التاريخ؛ تؤدي دوراً دينياً سلطوياً يحول دون قيام حريات حقيقية. وأسوأ من ذلك بكثير، أن البيئة العامة للتطرف الديني تديرها وتحميها وتمولها السلطات السياسية، لا الجماعات الدينية كما يظن كثيرٌ من الناس. فهذه الجماعات تحصد في الواقع ثمار العمل والتعليم الديني الرسمي في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام والمؤسسات والتشريعات العامة.
لا يبدو حتى اللحظة جهد علماني منظم لمواجهة الدور الديني القائم بالفعل للسلطة السياسية، مثل التعليم الديني في المدارس؛ والدور الرسمي في إدارة وتمويل المساجد والخطابة والشأن الديني بعامة؛ وكثير من التشريعات والعقوبات والتطبيقات العامة واليومية، مثل الأحوال الشخصية والإشارة إلى الدين في الوثائق الرسمية والتمييز ضد غير المسلمين على أساس ديني؛ والتدخل في الحريات والمسائل الشخصية والاجتماعية والتضييق عليها. وكل ما يفعله "العلمانيون" من خدمة للعلمانية هو التحالف مع السلطة ضد الجماعات الدينية، كأن العلمانية هي أن تؤدي الدور الديني النخب السياسية والاجتماعية القائمة، وأن يحرم من ذلك خصومها ومنافسوها، وفي ذلك يظل الاستبداد والتطرف الديني والاجتماعي قائمين في رعاية السلطة، بل يزيدان تماسكاً وقوة بسبب الشعور بالخوف والتهديد الذي تمثله الجماعات الدينية.
إن العلمانية، بما هي حياد الدولة تجاه الدين، هي أكبر ضمانة للمتدينين وتجنيب الدين التفسيرات السلطوية المعتسفة. وهي أيضاً البيئة الأفضل لمواجهة الكراهية والتطرف. ويفترض، تبعاً لذلك، أن يكون النضال والعمل الإصلاحي متجهاً أساساً إلى وقف الدور الحكومي، بحسناته وسيئاته، في التعليم الديني وفي إدارة الشؤون الدينية وتنظيمها، وأن يترك ذلك للمجتمعات. ولا يعني ذلك، بالطبع، غياب الدور السيادي والرقابي للدولة والقضاء على الشأن الديني، ولكننا بذلك نحرر الصراع والتنافس من عبء كبير، ولا يعود بين أنصار الله وأنصار الله الآخرين، ولكنه جدل وتنافس حول الموارد والخدمات وتنظيمها وتعظيمها.. وهذه هي الدبلوماسية الإلهية أو هدية الله إلى البشر ليعيشوا في سلام! . الغد